فنون الغناء في حلب
أحمـــد بوبـــــس
كـاتب ومؤرخ موسيقي
حلب مهد للعديد من الحضارات التي قامت على أرضها وانتشرت شرقا وغربا ، وما أعطته هذه الحضارات من ثقافات متنوعة انصهرت في بوتقة حلب ، فكونت لها نسيجها الحضاري الخاص .
ولعل فنون الموسيقا والغناء ، كانت أكثروضوحا في هذه الخصوصية التي تمتعت بها حلب في فنونها وثقافاتها. وتكاد تكون حلب المدينة العربية الوحيدة التي تميزت بألوان خاصة من الغناء ، لاتشابهها في ذلك أية مدينة عربية أخرى .
فقد اشتهرت حلب بثلاثة من فنون الغناء هي
القدود الحلبية والموشحات وما ارتبط بهامن رقص السماح ، وثالث هذه الفنون فاصل اسق العطاش .
القدود الحلبية
القدود الحلبية ... تمثل اللون الغنائي الشعبي الاساسي لمدينة حلب ، يرددها أهلهافي سهراتهم وحفلاتهم ورحلاتهم ،وطارت شهرة القدود الحلبية في الافاق ، حتى صاريؤديها الكثير من المطربين السوريين من خارج حلب ، بل والعديد من المطربين العرب ،ومن أشهر من غنى القدود محمد خيري،صباح فخري ، صبري مدلل، مصطفى ماهر، والمطربةســحر وغيرهم .
وأصل القدود الحلبية اما من الاغنيات الدينية التي كانتتؤدى في حلقات الذكر والمناسبات الدينية ، أو من أغنيات شعبية قديمة متدنية المستوىبكلماتها ، ففي الحالة الاولى ـ أي الاغنيات الدينية ـ تم استبدال الكلماتالدينية باخرى غزلية مع الحفاظ على اللحن الاصلي ، ومثال على ذلك الاغنية الدينيةالتي تقول ( ياامام الرسل ياسندي / أنت باب الله معتمدي .. ) التي تم استبدالكلماتها بكلمات تقول ( تحت هودجها وتجادلنا / صار ضرب سيوف ياويل حالي ) ، فكانهذاا لقد الجميل . والقد الذي يقول :
) ع الاسمر اللون .. يالاسمراني ) أصلهأغنية دينية يقول مطلعها ( عليك صلى الله / ياخير خلق الله ( .
أماالحالة الثانية من أصل القدود الحلبية ، فهي القدود التي مصدرها وأصلها أغنياتشعبية قديمة متدنية المستوى بكلماتها ، ومن أمثلة هذا النوع من القدود ، القد الذييقول
هـيمـتـــي تـيـمتـــني عن سواها اشغلتني
اخت شمس ذات انس لابكأس اسـكرتني
لست أسلوها ولو في نار هجران سلتني
فقد نظم كلمات هذا القد الشيخ أمين الجندي الحمصي على وزن أغنية شعبية كان يرددها الناس ويقول مطلها
جوجحتني مرجحتني دوختني ذلـلتـني
وحافظ القد على نفس لحن الاغنية الشعبية .
والشيخ أمين الجندي هوناظم كلمات معظم القدود الحلبية خلال اقامته في حلب برفقة ابراهيم باشا الذي اتخذحلب عاصمة له بعد فتحه لسورية .
ومن القدود الحلبية المشهورة ( قدك المياس ياعمري ) ، ( الارصية منين منين ) ، ( آه ياحلو يامسليني ) وغيرها قدود كثيرة .
الموشحات
الموشح .. هو في الاصل قالب غنائي أندلسي ،انتقل الى المشرق العربي عبر الهجرات بعد سقوط الدولة العربية في الاندلس ، واستقرتالموشحات في دول المغرب العربي ( المغرب الجزائر وتونس ) ،وفي الشرق العربي في مصروسورية ولبنان وفلسطين ، بينما لم تعرف دول المشرق العربي الاخرى فن الموشح .
وفي الحقيقة .. فان الموشح المشرقي يختلف عن الموشح الاندلسي في ناحيةفنية هامة ، ففي الموشح الاندلسي كانت الكلمات هي التي تحدد الموشح وليس اللحن ،فكان للموشح الاندلسي أوزانه الشعرية الخاصة ، أما في المشرق العربي فقد أصبح اللحنهو الذي يحدد قالب الموشح ، وبشكل خاص الاوزان ، لذلك نجد أن هناك موشحات بالزجل العامي ، واخرى من الشعر العربي الفصيح العمودي بأوزانه وتشطيراته المختلفة .
وحلب .. كانت أهم المراكز التي ازدهر فيها فن الموشح واكتسب فيها خصوصية فنية ،حتى عرف بالموشح الحلبي، وتمثلت هذه الخصوصبة بظهور الجانب التطريبي في الموشح الحلبي ، متأثرا بالغناء الشعبي في مدينة الشهباء ، وهذا لانجده في موشحات مصر(على سبيل المثال ) باستثناء موشحات سيد درويش الذي تأثر فيها بالاسلوب الحلبي ،فسيد درويش تعرف على فن الموشح في حلب خلال زيارتيه لها ، وتعلمه على أيدي أعلام الموسيقا فيها .
ومن أبرز ملحني الموشح في حلب الشيخ عمر البطش الذي لحن نحو مئة وأربعين موشحاً ، هي من أجمل ماعرفته حلب في هذا القالب الغنائي الراقي ،ومن موشحاته ( سبحان من صور حسنك ) ، ( ياذا القوام السمهري ) ، (هذي المنازل ( زارني تحت الغياهب ) ومن الذين اشتهروا بتلحين الموشح في حلب أيضا الشيخ علي الدرويش وأبنائه نديم وابراهيم ومصطفى ، وعبد القادر حجار تلميذ عمر البطش ، وبهجت حسان وابراهيم جودت ومجدي العقيلي ...
رقص السماح
ارتبط رقص السماح بالموشح ارتباطا وثيقا ، وهو يشكل بحق أهم ملامح حلب الفنية وعرفته الشهباء دون بقية المدن السورية ، ورقص السماح هو في الاصل رقص ديني ، كان يؤديه الرجال فقط في حلقات الذكر والزوايا الصوفية ، وسمي هذا الرقص باسم السماح لانه الرقص الذي كان مسموحا به في الاوساط الدينية المحافظة وتقول رواية اخرى أن السماح يعني الاستئذان من رئيس الطريقة الصوفية لتقديم الرقص الذي كان يتصف بالحشمة والادب وبعده عن المجون والخلاعة ومايزال .
ومبتكر رقص السماح الشيخ عقيل المنبجي المتصوف الذي ولد في بلدة منبج قرب حلب ، وتوزعت اقامته مابين بلدته وحلب ، وتوفي في منبج ودفن فيها عام /731/ ميلاي ، والمنبجي عالم صوفي برع في الموسيقا ، وقد ألهمته عبقريته الموسيقية الى تحويل نغمات وايقاعات التواشيح الدينية التي كانوا ينشدونها في الزوايا الصوفية ويضربون ايقاعاتها بأيديهم الى حركات موزونه يتم تأديتها بالأرجل ، وعلم هذا اللون من الرقص لطلابه على ايقاعات النواشيح الدينية وكان رقصا رتيبا ، يستمر الفصل منه لمدة ساعتين ، وتقول بعض الروايات أن الفصل منه ، قد تصل مدته إلى أربع ساعات .
واستمر رقص السماح رقصاً دينياً يؤديه الرجال فقط ، حتى جاء الموسيقي الحلبي العبقري عمر البطش ، والذي ـ كما ذكرنا ـ أبدع ألحان موشحات بديعة، فقد أدخل الفنان البطش على رقص السماح تطوراً كبيراً فأخرجه من اطاره الديني وجعل منه فنا راقياً ، وأدخل العنصر النسائي في أدائه ، وفي رقص السماح يرتدي الرجال الازياءالحلبية الشعبية مثل القمباز أو الصدرية والميتان والشروال ، ويشدون على وسطهم الشال مع الحذاء الحلبي الأحمر ، أما النساء فيرتدين الألبسة الحريرية الفضفاضةالمحتشمة مع الطرحة على الرأس ، وتكون ألوان الألبسة النسائية زاهية مزركشة بتطريزالاغباني ، وتؤدى الرقصات على نغمات وايقاعات الموشحات والقدود الحلبية التي تقدم على شكل وصلات ، كل وصلة من مقام واحد ، ولكل وصلة من الموشحات رقصة خاصة بها ،فللرقصة الخفيفة الهادئة موشحات خفيفة الوزن ، وللرقصة السريعة موشحات ذات ايقاعات سريعة ، تتسارع فيه الاصوات ، وتتلاحق فيها الكلمات ، ولضارب الايقاع دور مهم في ادارة حلقة الرقص .إلا أن دور الرجال فيه تقلص ، إلى أن اصبح شبه معدوم .
واستطاع عمر البطش أن يجعل من رقص السماح رقصاً راقياً حيوياً جميلاً، فقد ابتكر وصلات جديدة من السماح لم تكن معروفة من قبله ، منها وصلات مشبكة منمقامات الرصد والحجاز والبيات على أوزان المحجر والمربع والمدور والمخمس والسماعيوالثقيل الدارج ، ومن أجمل وصلات رقص السماح تلك الرقصة التي تؤدى على ايقاعات موشحات عمر البطش الشهيرة ، ( ياعريباً في الحمى ) و ( ان طال جفاك ياجميل ) وموشح ( لما بدا يتثنى ) للملحن المصري محمد المسلوب ، وبالامكان مشاهدة هذه الوصلةالبديعة من رقص السماح ضمن مشاهد فيلم ( عقد اللولو ) لدريد لحام ونهاد قلعي الذيانتج عام 1964 . وتؤدي وصلة السماح فيه فرقة أمية للفنون الشعبية .
واذاكان رقص السماح فناً حلبياً صرفاً فان دمشق تعرفت علبه بفضل جهود الزعيم الوطني السوري فخري البارودي الذي تعرف على رقص السماح في حلب فأحبه ونقله الى دمشق .
فقد حضر فخري البارودي ـ خلال احدى زياراته الى حلب ـ حلقة رقص السماحفي منزل منير العمادي ، وادى الحلقة عمر البطش مع مجموعة من أصدقائه ، فأحبالبارودي رقص السماح ، وقرر نقله الى دمشق ، كان ذلك عم / 1936 / وفي ذات العام ،استقدم البارودي عمر البطش الى دمشق ، فشكل البطش فرقة من طالبات مدرسة دوحة الادب ودربهن على السماح ، وقدمت الفرقة حفلة على مسرح المدرسة فتعرف جمهور دمشق على هذا الفن الراقي الذي كان له وقع جميل في النفوس .
وفي عام /1947/ قام فخري البارودي بتأسيس المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق وكان تابعاً لاذاعة دمشق فاستدعى عمرالبطش ثانية للتدريس في المعهد ، وقام البطش بتدريس الموشحات ورقص السماح ، وتخرج على يديه مجموعة من الموسيقيين المتخصيين بتلحين الموشحات ورقص السماح منهم زهير منيني ، عمر العقاد ، عدنان ايلوش ، بهجت حسان ، وعدنان أبو الشامات ...
وشكل عمر البطش فرقة لرقص السماح من مجموعة من طلاب وطالبات جامعة دمشق ، وقدمت الفرقة حفلة كبيرة على مدرج جامعة دمشق ، وهكذا انتقل رقص السماح الى دمشق وأصبح فناً أساسياً من فنونها . كما قدمت مجموعة من طلاب المعهد سابق الذكر وصلة من رقص السماح أمام أم كلثوم في منزل فخري البارودي خلال زيارتها إلى دمشق عام 1955.
22