حكم الكذب واسبابه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل الصدق منجاة، والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين.. أما بعد:
فإن من سبر أحوال غالب الناس اليوم وجد بضاعتهم في الحديث "الكذب" وهم يرون أن هذا من الذكاء والدهاء وحُسن الصنيع، بل ومن مميزات الشخصية المقتدرة.
ولقد نتج عن هذا الأمر عدم الثقة بالناس حتى أن البعض لا يثق بأقرب الناس إليه، لأن الكذب ديدنه ومغالطة الأمور طريقته.
نفعنا الله به وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
مدخل
جعل الله الأمة الإسلامية أمة صفاء ونقاء في العقيدة والأفعال والأقوال. فالصدق علامةٌ لسعادة الأمة، وحسن إدراكها، ونقاء سريرتها. فالسعادة مفتاحها الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب.
ولقد أخبر سبحانه وتعالى أنّه لا ينفع العباد يوم القيامة إلاّ صدقهم، وجعل علم المنافقين الذين تميَّزوا به هو الكذب في القول والفعل.
فالصدق: بريد الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده وحليته، ولباسه، بل هو لبّه وروحه .
والكذب: بريد الكفر، والنفاق دليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحليته، ولباسه، ولبه، فمضادّة الكذب للإيمان كمضادَّة الشرك للتوحيد، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلاّ ويطرد أحدهما صاحبه ويستقر موضعه.
فما أنعم الله على عبد من نعمة بعد الإسلام أعظم من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده.
أخي المسلم: إياك والكذب، فإنّه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس، فإن الكاذب يصوِّر المعدوم موجودا والموجود معدوما والحق باطلا والباطل حقّا، والخير شرا والشر خيرا، فيفسد عليه تصوره وعلمه، عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المُخاطب المغترّ به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه، ونفس الكاذب مُعْرضة عن الحقيقة الموجودة نزّاعة إلى العدم مؤثرة للباطل، وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسَرَى حكم الكذب إليها مضار صدورها عنه كصدور الكذب عن اللسان، فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله.
تحريم الكذب
الكذب من قبائح الذنوب وفواحش العيوب.
قال الله جلَّ وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: من الآية 36].
وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة قّ:18].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصدقَ يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفُجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجل ليكذبُ حتى يُكتب عند الله كذابا».
قال العلماء: "إن الصدق يهدي إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم.
والبر: اسم جامع للخير كله. وقيل: البر: الجنة، ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة.
أما الكذب: فيوصل إلى الفجور وهو الميل عن الاستقامة. وقيل: الانبعاث في المعاصي".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقا خالصا، ومن كان فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلة من نفاقٍ حتَّى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
وفي ذم التحدث بكل ما يسمعه المرء، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمع».
وقال عبد الله بن عامر: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعال حتى أعطيك. فقال صلى الله عليه وسلم:
«وما أردت أن تُعطيه؟».
قالت: تمرا. فقال: «أما إنَّكِ لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة».
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عندالله كذابا».
فاحذر ـ أخي المسلم ـ من مغبَّة الكذب فإن الكذب أساس الفجور كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار».
الحالات التي يُباح فيها الكذب
الكذب حرام؛ لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره. ولكن يُباح الكذب وقد يجب أحيانا، والضابط فيه: أن كل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا. وإن كان واجبا كان الكذب واجبا. فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله وأخفى ماله وسُئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه. وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها منه، وجب الكذب بإخفائها والأحوط في هذا كله أن يُوَري.
وملخص ما سبق، فإن الفقهاء قد نصُّوا على أن الكذب ينقسم على أقسام حكم الشرع الخمسة والأصل فيه التحريم:
القسم الأول: المحرم: وهو ما لا نفع فيه شرعا.
القسم الثاني: المكروه: وهو ما كان لجبر خاطر الوالد أو خاطر الزوجة.
القسم الثالث: المندوب: وهو ما كان لإرهاب أعداء الدين في الجهاد، كأن يُخبرهم بكثرة عدد المسلمين وعددهم.
القسم الرابع: الواجب: ما كان لتخليص مسلم أو ماله من هلاك.
القسم الخامس: المباح: ما كان للإصلاح بين الناس. وقد قيل بقبحه مطلقا؛ لما ورد في أهله من الذم في كتاب الله العزيز.
المعاريض
بيان الحذر من الكذب بالمعاريض:
نُقلَ عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب. وأراد بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب، فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا، ولكن التعريض أهون.
ومثال التعريض:
- ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض، وقال: ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلاّ ما رفعني الله.
- وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله تعالى ليعلم ماقلت من ذلك من شيء. فيكون قوله: "ما" حرف نفي عند المستمع، وعنده الإبهام.
- وكان معاذ بن جبل عاملا لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته: ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهله؟ وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغط، قالت: كنت أمينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر رضي الله عنه فبعث عمر معك ضاغطا؟ وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر، فلمَّا بلغه ذلك دعا معاذا وقال: بعثت معك ضاغطا؟ قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئا. فقال أرضها به ـ ومعنى قوله ضاغطا: يعني رقيبا وأراد به الله تعالى.
- وكان النخعي لا يقول لابنته: أشتري لك سكرا، بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكرا؟ فإنه ربما لا يتفق له ذلك.
- وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار. قال للجارية: قولي له أطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذبا.
- وكان الشعبي إذا طُلب في المنزل وهو يكرهه خط دائرة، وقال للجارية: ضعي الإصبع فيها وقولي لي ليس ههنا.
وهذا كله في موضع الحاجة. فأمَّا في غير موضع الحاجة فلا؛ لأن هذا تفهيم للكذب ـ وإن لم يكن اللفظ كذبا ـ فهو مكروه على الجملة كما روى عبدالله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ فخرجت وعليَّ ثوب، فجعل الناس يقولون: هذا كساه أمير المؤمنين؟ فكنت أقول جزى الله أمير المؤمنين خيرا، فقال لي أبي: يا بني اتق الكذب وما أشبهه، فنهاه عن ذلك؛ لأنَّ فيه تقريرا لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا غرض باطل لا فائدة منه.
الأسباب الباعثة على الكذب
هناك بواعث كثيرة تدفع صاحب النفس الدنيئة إلى الكذب، ومنها:
أولًا: قلة الخوف من الله وعدم مراقبته في كل دقيقة وجليلة.
ثانيًا: محاولة تغيير الحقائق وإبدالها سواء لرغبة في الزيادة أو النقصان وسواء للتفاخر أو لمكسب دنيوي أو غيره مثل من يكذب في ثمن شراء أرض أو سيارة، أو إيهام أهل المخطوبة بمعلومات غير صحيحة وغيرها.
ثالثًا: مسايرة المجالس ولفت الأنظار بقصص ومعلومات كاذبة.
رابعًا: عدم تحمل المسئولية ومحاولة الهرب من الحقائق في الأزمات والمواقف.
خامسًا: التعود على الكذب منذ الصغر وهذا من سوء التربية فهو منذ نعومة أظفاره يرى والده يكذب وأمه كذلك فينشأ في هذا المجتمع.
سادسًا: المباهاة بالكذب وأنه نوع من الذكاء ومن سرعة البديهة وحسن التصرف.
ما لا يحسبه الناس كذبًا
ومن الكذب الذي لا يُوجب الفسق، ما جرت به العادة في المبالغة، كقوله: طلبتك كذا وكذا مرة، وقلت لك: كذا مائة مرة، فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا، وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم وإن لم تبلغ مائة، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب.
ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به، أن يُقال: كل الطعام، فيقول: لا أشتهيه؛ وذلك منهي عنه وهو حرام، وإن لم يكن فيه غرض صحيح.
قال مجاهد: قالت أسماء بنت عُميس: كنتُ صاحبةَ عائشة في الليلة التي هيَّئتُها وأدخلتُها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي نسوةٌ قالت: فو الله ما وجدنا عنده قريً إلا قدحا من لبن، فشرب ثم ناوله عائشة، قالت: فاستحيت الجارية. قالت: فقلتُ: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خذي منه، قالت: فأخذت منه على حياء فشربت منه ثم قال: «ناولي صواحبك» فقلن: لا نشتهيه، فقال: «لا تجمعن جوعا وكذبا» قالت: فقلت: يا رسول الله: إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيُعدُّ ذلك كذبا؟ قال: «إن الكذب ليكتبُ كذبا، حتى تكتب الكُذيبة كُذيبة».
وقد كان أهل الورع يحترزون عن التسامح بمثل هذا الكذب.
قال الليث بن سعد: كانت عينا سعيد بن المسيب ترمص حتى يبلغ الرمص خارج عينيه، فقال له: لو مسحت عينيك؟ فيقول: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك؟
فأقول: لا أفعل وهذه مراقبة أهل الورع.
ومن تركه انسل لسانه في الكذب عند حد اختياره فيكذب ولا يشعر.
وعن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة لابن له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني؟ فجلس الربيع وقال: أرضعتيه؟قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت، يا ابن أخي فصدقت؟
ومن العادة أن يقول: يعلم الله، فيما لا يعلمه.
قال عيسى ـ عليه السلام ـ: إن من أعظم الذنوب عند الله أن يقول العبد: إن الله يعلم، لما لا يعلم. وربما يكذب في حكاية المنام، والإثم فيه عظيم إذا قال عليه السلام: «إنَّ من أعظم الفرية أن يدَّعي الرجلُ إلى غير أبيه أو يُرى عينيه في المنام ما لم ير أو يقول عليَّ ما لم أقل». وقال عليه السلام: «من كذب في حُلمه كُلِّف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبدا».
ومما لا يحسبه الناس كذباويتساهلون فيه:
1ـ دعوة الصغير لأخذ شيء، وليس مع الدَّاعي شيء:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا صبيّ صغير فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدالله، تعالى حتى أعطيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أردت أن تُعطيه» قالت: تمرا. فقال: «أما إنَّكِ لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة».
فليتنبّه الآباء، ولتتنبه الأمّهات إلى هذا، فإنَّهم يرون هذه الكذبات خير ما يدرأ عنهم المتاعب ويجلب لهم المنافع.
ولنربِّ الأبناء على الإسلام، ولنغرس فيهم الصدق، وإيَّانا أن نكذب عليهم، فذلك من أقوى الأساليب التي تجعلهم كذَّابين، وهذا الصَّحابي الجليل عبدالله بن عامر رضي الله عنه قد روى لنا بنفسه ما جرى مع أمِّه حين كان صغيرا، إذ أن الصغير، شديد الحفظ لما يسمع والتقليد لما يرى.
2ـ التَّحدث بكل ما يسمع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يُحَدِّث بكلِّ ما يسمع».
وفي رواية: «كفى بالمرء إثما أن يُحدِّث بكل ما يسمع».
ولربما ينقل أحدهم الحديث بغير تثبت، فيقول: هذا ما سمعته. ولا أنقل سوى ذلك، وماذا لو كان ما سمعه تهمة زنا لرجل عفيف، أيظلّ ينقل هذا؟ ومن منا يرضى لنفسه أن يتحدَّث عنه بمثل هذا؟
3ـ التحدّث بالكذب لإضحاك الناس:
عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذبُ، ليُضحِك به القوم، ويلٌ له ويلٌ له».
واشتهرت ـ وللأسف ـ أسماء من وراء هذه المعاصي، وامتلكوا الأموال والقصور، وأدخلوا السرور إلى نفوس الناس بزعمهم، فراقب الناس حركات الممثلين بكل اهتمام، وتلقّى الناس هذه البضاعة بالقبول، وتبرير ذلك، بأنه ترويح للنفوس، وإذهابٌ لبؤسها، وتبديدٌ لعناء الحياة، وما ذاك إلا لأنَّه موافقٌ لهوى نفوسهم.
الكذب من أنواع الكفر الأكبر
يقول ابن قيم الجوزية: "وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق".
فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل. وهذا القسم قليل في الكُفار فإن الله تعالى أيد رسله، أعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام الحجة، وأزال به المعذرة. قال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [سورة النمل: من الآية 14]، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [سورة الأنعام: 33].
وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح. إذ هو تكذيب باللسان.
وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس. فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار. وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار. ومن هذا كفر من عرف صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [سورة المؤمنون: من الآية 47]، وقول الأمم لرسلهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [سورة إبراهيم: من الآية 10]، وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [سورة الشمس: 11].
وأما كفر اليهود: كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة: من الآية 89]. وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [سورة البقرة: من الآية 146].
وأما كفر الإعراض: فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه. ولا يواليه ولا يعاديه. ولا يصغى إلى ما جاء به البتة كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله أقول لك كلمة. إن كنت صادقا، فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك. وإن كنت كاذبا، فأنت أحقر من أكلمك". وهو كفر الملحدين اليوم من المتسمين بأسماء إسلامية، المقلدين للإفرنج من اليهود والنصارى المنحلين عن كل خلق وفضيلة، زاعمين بجاهليتهم وسفههم أن هذا هو سبيل الرقي والمدنية.
وأما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا بكذبه، بل يشك في أمره وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة. فلا يسمعها ولا يلتفت إليها. وأما مع التفاته إليها ونظره فيها: فإنه لا يبقى معه شك؛ لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعهما فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.
وأما كفر النفاق: فهو أن يُظهر بلسانه الإيمان، وينطوي بقلبه على الكذب، فهذا هو النفاق الأكبر.
الكذب على الله عزَّ وجلّ وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم
قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [سورة الزمر: من الآية 60].
قال الحسن: "هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل".
قال ابن الجوزي في تفسيره: وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الكذب على الله وعلى رسوله كفر ينقل عن الملة، ولا ريب أن الكذب على الله وعلى رسوله في تحليل حرام وتحريم حلال كفر محض، وإنما الشأن في الكذب عليه فيما سوى ذلك:
وقال صلى الله عليه وسلم: «من كذب عليَّ بُني له بيت في جهنَّم»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كذب عليَّ مُتعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
درر من أقوال السلف
أخي المسلم: الكذب أساس الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار». وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها عملها كما أفسد على اللسان أقواله، فيعمّ الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها.
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب. فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشأه الصدق. وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشأه الكذب، والله تعالى يُعاقب الكذاب بأن يُقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويُثيب الصادق بأنه يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدهما ومضارّهما بمثل الكذب.
ومن أقوال وأفعال السلف هذه الدُرر المختارة:
- قال علي رضي الله عنه: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة".
- كان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلاّ تصدق بدرهم فحلف فتصدق به، ثم جعل أن يتصدق بدينار، فكان إذا حلف صادقا في عرض الكلام تصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا كسى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه فوضعه على الخبز ثم يعطيه إنساناً فقيراً، فإن كان في الدار من عياله إنسان يحتاج إليه دفعه إليه وإلا أعطاه مسكينا.
- عن أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة قال: كان يقال: إن ربعي بن حراش رضي الله عنه لم يكذب كذبا قط، فأقبل ابناه من خراسان قد ناجلا، فجاء العريف إلى الحجاج فقال: أيها الأمير: إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب قط، وقد قدم ابناه من خراسان وهما عاصيان، فقال الحجاج: عليّ به، فلما جاء قال: أيها الشيخ. قال: ما تشاء؟ قال: ما فعل ابناك؟ قال: المستعان الله خلفتهما في البيت، قال: لا جرم والله، لا أسوؤك فيهما، هما لك.
- وقال مالك بن دينار: "قرأت في بعض الكتب: ما من خطيب إلاّ وتعرض خطبته على عمله فإن كان صادقا صدف، وإن كان كاذبا قرضت شفتاه بمقاريض من نار كلما قرضتا نبتتا".
- وقال مالك بن دينار: "الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يُخرج أحدهما صاحبه".
- وعن هارون بن رئاب قال: لما حضرت عبدالله بن عمرو الوفاة قال: إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وكان مني إليه شبيه الوعد، فوالله لا ألقى الله عزَّ وجلّ بثلث النفاق اشهدوا أني قد زوجتها إياه.
- وكلم عمرو بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء فقال له: كذبت، فقال عمر: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.
- جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بنيّ؟ فسأل الربيع: أرضعتيه؟ قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت: يا ابن أخي، فصدقت؟.
- قال يزيد بن ميسرة: "الكذب يسقي باب كل شر، كما يسقي الماء أصول الشجر".
- قال عمر بن عبد العزيز: "ما كذبت كذبة منذ شددت عليّ إزاري".
عــــلاج الكذب
أخي المسلم: إذا أردت أن تعرف قُبح الكذب من نفسك، فانظر إلى كذب غيرك وإلى نفور نفسك عنه واستحقارك لصاحبه واستقباحك لكذبه.
ويجب على المسلم تجديد التوبة إلى الله من كل ذنب وخطيئة وعليه تحري الأسباب التي تعين على ترك الكذب، ومنها:
1ـ معرفة الكاذب لحرمة الكذب وشدة عقابه وتذكر ذلك مع كل حديث وفي كل مجلس.
2ـ تعويد النفس على تحمل المسئولية وقول الحق حتى وإن كان هناك نقص ظاهري يراه، فإنّ الخير في الصدق.
3ـ المحافظة على اللسان ومحاسبته.
4ـ استبدال مجالس الكذب وفضول الكلام بمجالس الذكر وحلق العلماء.
5ـ أن يعلم الكذاب أنّه متصف بصفة من صفات المنافقين.
6ـ أن يستشعر أن الكذب طريق للفجور وأن الصدق يهدي إلى الجنة.
7ـ تربية الأطفال تربية إسلامية صحيحة وتعويدهم على الصدق والظهور بمظهر الصادقين أمامهم.
8ـ أن يعلم الكاذب أن ثقة الناس به تزول وهذا من خُسران الدنيا والآخرة.
9ـ أن يستشعر عظم الضرر الذي سيلحق بالمسلم من جراء كذبه.
أخي المسلم:
لا يكذب المرء إلاّ من مهانته
أو مفعلة السوء أو من قلة الأدب
الخاتمة:
أخي الكريم: اجتنب صحبة الكذاب فإنّه مثل السراب يلمع ولا ينفع، ولا تجعل نفسك مهينة وأنت ترى أنّه في قرارة نفسه استطاع بذكائه أن يوهمك ويدلس عليك. بل انفر منه ولا تدعه يلوث سمعك ويخطِّيء معلوماتك ويفسد عليك صفاءك
0