lithysite

0

1,821

كيف تنجح في حياتك بعشرة دروس؟

ما هو فن الحياة؟إنه بحث وجودي عميق جداً وسوق مزدهرة في آن معاً.بحث وجودي يرجع إلى ظاهرة إنسانية أساسية. يمتلك الكائن الإنساني مقدرات ذهنية متميزة تمكنه من أن ينطلق خارج نفسه، ليستشرف، ويتصوّر ويقوم بمشاريع ويفكر في حياته. وعندما تواجهه مصاعب وتحديات، تستوجب منه الظروف أن يفرض على نفسه نظام حياة للتغلب على آلامه وحرمانه، وأن يفرض على نفسه قواعد لوجوده محاولة منه للارتقاء إلى مستوى مشاريعه.وفن الحياة هو سوق، لأن التطور الشخصي ليس سوى التعبير عن حاجة قديمة جداً أعيد تنشيطها واستثمارها من سوق ما.إن كتب تطوير الشخصية هي وسيلة مربحة جداً بالنسبة إلى بعض الكتاّب والناشرين، والخبراء الذين كرَّسوا أنفسهم للحكمة ولدروس الحياة. هذا الإنتاج مجهول من قبل علم النفس الأكاديمي (لكنه يجد مكاناً له على رفوف المكتبات)، وهو مكروه من قبل علماء الاجتماع الذين يرون فيه عقيدة الفرد الحر الذي يرغب في تقدير خصائصه، كما يذمّه الفلاسفة الحقيقيون الذين يشرفون على المفكرين الإعلاميين ممن ينشرون كتباً في فن الحياة.إن أدب تطوير الشخصية هو غالباً موضوع غير متين، إذ من بين ألفِ مثالٍ نجد: أنتوني روبانز، وهو مستشار روحي أمريكي يبيع ملايين النسخ من كتبه حول: "إيقاظ قدرتكَ الداخلية" ما يعطي كل شخص "مقدرة غير محدودة" (بحساب وسطي وفق المشاركة في بعض المستويات الباهظة).لكن من الخطأ تحديد فن الحياة وتطوير الشخصية إلى هذا الحد فقط. لأن الاهتمام بإدارة الحياة ومواجهة صعوباتها هي مسألة لا يمكن حصرها ومطروحة للجميع.ويوجد اليوم علم نفس أكاديمي أبعد من الوصفات السحرية لتنمية الشخصية قد تطوَّر في إطار المعالجة النفسية المعاصرة أو في إطار تنظيم الحياة اليومية: فهو يقترح استراتيجيات شخصية لمحاربة السلبيات ومواجهة الضغوط أو المخاوف، وللسيطرة بشكل أفضل على الانفعالات وعلى تنظيم الوقت.ويعتقد علماء الاجتماع أن مجتمعاً ذا كفاءات تكاملية مرنة جداً يدعو إلى تطوير وتنمية "الانعكاسية" لديه والبحث عن استراتيجيات شخصية لقيادة الحياة.مشروع هذا البحث هو التحدث عن تاريخ فن الحياة، وعن الحِكم القديمة المتعلقة بتطوير الشخصية، وأسسه النظرية ومراحله، وآماله وأوهامه. قد يجد القارئ فيه بعضاً من قواعد الحياة تفيد باجتياز المعوقات أو مواجهة تحديات الوجود.تتلخص دروس الحكمة التي تركها لنا الفلاسفة القدامى أو كتب التطوير الذاتي، بعدد صغير من المبادئ- غالباً هي نفسها- والمفروض أنها لتحسين الحياة، مثل: "كن نفسك"، "اعرف نفسك"، "اقبل ما لا تستطع تغييره وغيّر ما يمكن تغييره"... ويمكن لهذه الوصايا الأخلاقية أن تتوجه إلى الجميع ويستطيع كل فرد أن يستخلص منها رسالة، لأنها لا تتمحور باتجاه نموذج وحيد من الوجود، وهو الأمر الذي أدى إلى نجاحها العالمي. تقدِّم هذه الدراسة عرضاً لجميع هذه القضايا في عشرة دروس.1- هناك ثلاث حجج قوية كي نعيش(1)عندما سألتُ فرانك (أعزب وعمره 42 سنة) ماذا يعني بالنسبة إليه "فن الحياة"، أجابني بأنه لا يؤمن بالسعادة. فهو مضطرب منذ سن المراهقة، لذلك قد يكتفي بالتخلص من القلق وعدم الرضا المستمر الذي ينغِّص عليه حياته.وعندما سألتُ سارة التي لها من العمر 23 عن رأيها في السعادة أجابتني أن حلمها هو أن تجد عملاً يمكنها أن تتطور وتكسب مرتباً جيداً وتذهب لتعيش في الخارج: إنه "حلمها الأمريكي".أما كريم، ذو الـ29 عاماً، فقد كانت له بدايات فاشلة. لقد مُني بالفشل المدرسي والجنوح. ويود الآن بعد هذه البداية المضطربة أن يسعى إلى حياة منتظمة، ويجد عملاً ويؤسس عائلة، ويحظى باحترام الآخرين واحترام نفسه. أي أن يصبح شخصاً ذا شأن وذا سمعة طيبة.وعندما سألتُ جيل، 52 عاماً، ويعمل في الحقل التجاري، أجابني بأنه لا يعرف ماذا يعني "فن الحياة". فهو يعتقد أن الأمور بالنسبة إليه منتهية: فهو رب عائلة ينبغي عليه أن يوفر لها الغذاء، وهو متعب من عمله وينتظر أن يحال إلى التقاعد في الوقت الراهن.كل واحد من هؤلاء قدَّم رؤيته لفن الحياة على طريقته الخاصة. فبالنسبة إلى الأول يجده في البحث عن السعادة مثل الحلم بـ"الحب الكبير"، وآخر يكتفي بالتخلص من ألمه، وبالنسبة لشخص آخر أن تعيش يعني:"إنجاز شيء ما"، سواء على صعيد النجاح الاجتماعي أو العائلي، أو تحقيق مشروع كبير أو تكريس نفسه لأهوائه. في جميع الأحوال، ينبغي السعي إلى تجميل الوجود. وخلاصة الموضوع هي أن نعيش "حياة هنيئة" جديرة بالاحترام.فهنا نجد ثلاثة آفاق للحياة: - أن يكون الإنسان سعيداً - أن يحقق شخصيته - وأن يعيش حياة لائقة محترمة. ويمكن أن نتخيّل آفاقاً أخرى: العمل من أجل مثال أعلى، أن نضحّي من أجل الآخرين، وأخيراً أن نمزج بين هذه الآفاق في مزيج وجودي غير مضمون. وهذا حال الجميع تقريباً.السعادة غير موجودة، إنها ليست سوى لوحة إرشاد تبيّن لك توجهات متعددة.2- الحكمة هي ذات تاريخ طويل(2)يتعيّن فن الحياة ويتضح بواسطة أهدافه ووسائله. فهو يحتوي على هذه الفكرة الإضافية: أن تحيا، هو شأن خاضع للتعلم. فكما أن هناك فن المعارك، وفن الطبخ، وفن الصيد وفن زراعة الحدائق...، هناك فن الحياة أيضا. يمكن أن نتعلم كيف نعيش: وهذا الأمر يفترض إرشاداً وتدرباً وتمرناً، وخبرة، ونهجاً ودروساً في الحياة.في اليونان القديم كان الفيلسوف يُعرَّف على أنه "محب الحكمة" (من هذا المعنى تتألف الكلمة: "فيلو" باليونانية تعني محب وصديق، وسوفيا تعني الحكمة). وماذا يعني ذلك تماماً؟ إن تاريخ الفلسفة القديمة قد تم تعليمه لفترة طويلة من خلال عدد من المفكرين (فيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو)، والذين كانوا يُعتبَرون منظرّين، هدفهم النهائي كان البحث عن الحقيقة والوصول إليها بواسطة العقل. فالفلاسفة القدامى كانوا إذاً "متضلعين في الحقيقة". أما بيير هادو Pierre Hadot (2010-1922) وهو مؤرخ أفكار، فقد غيَّر من هذه النظرة، بعد أن دأب جاهداً ليبرهن بأن الفلسفة القديمة كانت تُدرَك ويتم تمثلها قبل كل شيء على أنها فنّ متميز للحياة؛ بالإضافة على التأكيد بأن مقصد الفيلسوف كان معرفة الطبيعة والنفس الإنسانية؛ غير أنه كان أيضاً وعلى الأخص شخصاً يستخدم فكره ليعيش "حياة سليمة".هذه الحياة السليمة لا تستوجب الدراسة فقط بل تتطلب أولاً بعضاً من علم الأخلاق الذي يفترض نظاماً ونهجاً، والسيطرة على الأفكار الشخصية وعلى الأهواء: أي"إدارة الذات" وهذا ما قاله لاحقاً ميشيل فوكو Michel Foucault.ويقول المؤرخ بول فين Paul Veyne، الفيلسوف القديم ليس مفكراً فحسب بل إنه "قديس علماني(3)". فهو ملتحٍ وهذا ما يميّزه عن الأشخاص العاديين، ويقدم تعاليمه لمن يريد سماعها. وكان ينبغي على الحكيم في ذلك الزمان، أن يتبنى أسلوب حياة يمكن أن يكون مثالاً للجميع. هكذا كان سقراط وأفلاطون وسينيك وابيقور وفيثاغورس ومارك أوريل وكثير غيرهم (أو كانوا يسعون ليكونوا كذلك).وحدث أنه في الوقت نفسه، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من هنا، حدثت ظاهرة مماثلة في آسيا. في القرن السادس قبل الميلاد، عندما ازدهرت الفلسفة اليونانية، ظهر في آسيا نموذج جديد من الإنسان: وهو الحكيم. فبرزت ثلاثة وجوه رئيسة: كونفوسيوس، لاوتسو، وسيدهارتا(بوذا)، الذين سوف يؤسسون الروحانيات الرئيسة الثلاث في آسيا: الكونفوشية، التاوية، والبوذية، وهي الأشكال الثلاثة للحكمة الصينية والآسيوية. اختلافها ليس سوى أمرٍ ظاهري طالما أن الحكم الثلاث تتلاقى لتشكل عقيدة للسعادة مبنية على وجود هادئ وسليم. أليس البحث عن السعادة هو ما ينشده جميع البشر؟ إلا أن مثله مثل أشياء كثيرة تبدو لنا عالمية لكن تحقيقها قد يأخذ أشكالًا نوعية تماماً نتيجة للبيئة التي تتجذر فيها.تأسست البوذية على تعاليم "سيدهارتا غوتاما" (560- 480 ق.م) والذي أطلق عليه لاحقاً لقب "بوذا" أي "اليقظ"، هو أمير هندي نشأ وفق التراث الفيدي الهندوسي والتزم في سلك التنسك والزهد.كانت البوذية(4) في البدء نوعاً من التصوف متجهاً نحو البحث عن حالة إخماد الشهوة وإفناء الأنا (النرفانا). لكن هذه الحالة لا يصلها الإنسان بالضرورة خلال حياته البشرية. وأصبحت البوذية بعد ذلك ديانة (مع ألوهياتها المتعددة وطقوسها وأديرتها) أكثر منها حكمة (مع تقنياتها الذهنية وطرقها في الخلاص). ثم انقسمت إلى عدة طوائف دينية متميزة الواحدة عن الأخرى (الذرافادا، المهايانا والبوذية الهندية واللامية التيبيتية، والزن اليابانية)، ثم انقسمت ثانية إلى مدارس منتشرة في كل آسيا (الهند، والصين، وكوريا..)أما الـ"جونزي" أو "الإنسان الصالح" الكونفوشي، فله سمات تشبه الحكيم الرواقي، كما أن نموذج الحياة التاوية قريب جداً من أسلوب حياة أبيقور. يقاد الحكيم من قبل ضميره الداخلي بدل غرائزه أو بدل القوانين الاجتماعية.إن ظهور هؤلاء، أي أرباب الحكمة في الغرب والشرق في آن معاً في القرن الخامس قبل الميلاد لهو أحجية تاريخية لم تجد الحل بعد. لقد تم تسمية هذه المرحلة الجديدة من تاريخ البشرية من قبل "كارل جاسبر" بالـ"مرحلة المحورية(5)".نجد سمات مشتركة عند هذه الشخصيات ونجد في حكمتهم: التأكيد على الأخلاق الداخلية المرتبطة بنظام حياة وببحث روحاني (يتصعد فوق الطقوس والمعتقدات الطائفية), وببناء نوع من "الحصن الداخلي" وفق الصيغة الجميلة(6) لـ"هادوHadot". المغزى في هذه الحكمة يدلنا على أن فن الحياة هو شأن ثقافي.3- حياة نشطة أم حياة تأملية(7)؟في "وضع الإنسان الحديث" (1961) يميز "حنا آرنت" نوعين من الحياة: الحياة النشطة والحياة التأملية، ويعتبران أنهما توجهان في الوجود. الحياة التأملية هي البحث عن السعادة المرتكز على رفض الدنيويات مثل الثروة أو التسابق إلى النجاح. بالنسبة إلى الحياة التأملية، المعنى الحقيقي للوجود يتواجد فيما نسميه في يومنا هذا "الإفلات": الاستفادة من الوقت الراهن. وهذا يستتبع أيضاً نوعاً من الرفض. البوذية وحقائقها النبيلة الأربعة تقدم الشكل الأكثر تصعيداً: الحياة ألم، الألم ينتج عن الشهوة؛ فلنلغ إذاً الشهوة، نوقف بذلك الألم. بالنتيجة، ينبغي أن نرفض الحياة كي لا نتلوث...الحياة النشطة: هي نموذج حياة معاكس محورياً يستند إلى التأكيد على الشهوة والعمل. فوفق هذا النموذج للحياة، هدف الوجود ليس في التأمل المستسلم: العيش يعني الفعل وتحقيق الذات. في داخلنا قوة حيوية تتطلب التعبير عن نفسها فتدفعنا إلى الفعل والتصرف، وإلى تحقيق ذاتنا وتحقيق أشياء أخرى كثيرة. من وجهة النظر هذه، كل فعل وكل مشروع إنساني يفترض الألم والمتعة في آن معاً ولا يصح الأول دون الآخر. يتعلق فن الحياة إذاً بآلية النضال. وأفضل من يقدم فلسفة الوجود المصارع، شبه قتالية، هو فريدريك نيتشه.4- الشر في الخير(8)حياة تأملية أم حياة نشطة؟ فلسفة الراحة أم الفعل؟ إذا دققنا عن كثب، الكثير من الحكم تتواجد في منتصف الطريق بين الحياتين.بوذا، بعد أن هجر بوذا حياة القصر، بحث عن الخلاص في الزهد الأكثر صرامة والذي يعظمه الصوفيون: وهذا استتبع رفض المتعة ونكران الذات بشكل كامل. وفي النهاية اختار "الطريق الوسط". كذلك أرسطو في مؤلفه "علم الأخلاق إلى نيكوماك" يتخذ طريقاً وسطاً في التعامل مع الأهواء: شهوة معتدلة وفعل بروية. الرواقية والإيبيقورية كانتا أيضاً تنصحان بالوسطية وترفضان الأطماع التافهة دون التخلي عن الحياة النشطة الفعالة.حياة نشطة وحياة راكدة، فعل وتأمل، هما أمران ينظمان إيقاع حياتنا: نشاط النهار يلي ليل الاستراحة، وكل أسبوع ينتهي بإجازة في نهايته، العمل والفراغ يتتاليان. ينبغي أن يكون الإنسان فيلسوفاً أصولياً وملبداً بالحلول النهائية كي يؤمن أنه ينبغي الاختيار بين الاثنين.حياة نشطة بشكل صميمي، مع سباق إلى التفوق، عقيدة الانتصار؟ كفى! الإنسان الأسمى (النساء خصوصاً) هم متعبون في يومنا هذا. الموظفون فقدوا قواهم، والآخرون أيضاً(9). لم تعد عقيدة الانتصار والامتياز أمراً منصوحاً: فهو يؤدي إلى الاحتراق، والضغط النفسي وإلى "كآبة مساء يوم الأحد(10)".هذه الفلسفات في فن الحياة، المبنية على الانفلات، والوقت الراهن، تلاقي نجاحاً لأنها تتناغم مع تطلعات عصرنا القوية في مواجهة نمط حياة ضاغط (السباق إلى الدبلوم، روتين العمل، أحداث مثيرة للقلق، زيادة في استهلاك الصور والمعلومات)، نتمنى فيه لو أننا نستطيع "التراجع". حديقة أبيقور تأخذ اليوم شكلاً ترّهياً: غرفة الضيف، أو منزل ريفي، حيث تتحد عناصر الطبيعة (قليلة التوحش, أرض زراعية محلية)، وجبات لذيذة (شرهون وليس عمالقة)، أنواع نبيذ جيدة (اليوم تتطابق الفلسفة مع موضوع الخمر)، وأصدقاء حقيقيون (حميميون لدرجة لا نلتقيهم إلا نادراً).وبالمقابل، لا يمكن للإجازات أن تستمر إلى الأبد. التراجع التام عن المشاريع الكبيرة، الانسحاب من الحياة الاجتماعية، رفض الوجود كي لا نقوم بأية مجازفة؟ هذا مستحيل! الحياة التأملية لها حدودها الخاصة بها: النساك الصوفيون يغرقون في الانهيار وهذا ما كانوا يسمونه الحدّية. العديد من المتقاعدين يذهبون اليوم باتجاه الجمعيات، يسافرون، وينشغلون بألوف النشاطات، مالئين أجندتهم وكأنها أجندة وزير. لأنهم اقتنعوا أن الركود لمدة طويلة يؤدي إلى ضجر قاتل، وهدام ودون أية متعة. فطعم الراحة الحقيقي لا يمكن الشعور به إلا بعد نشاط كثيف.لهذا السبب نجد كتب فن الحياة القديمة وكتب التغيير الشخصي المعاصر تتأرجح كلها بين المناداة بالإفلات (عقيدة الوقت الراهن) وبين المناداة بتجاوز الذات (السيطرة على النفس).5- فن التوقف عن عمل أيِّ شيءفي رواية "زين" يتلخص فن الحياة في حفل الشاي. وفق الأستاذ الكبير "سين نوريكيو" (1522- 1591)، يتكوّن هذا الفن من الفعل التالي: "نجعل الماء يغلي، ثم نهيئ الشاي ونشربه". هذا كل شيء؟ نعم. هذا يعني:أ*) أنه ينبغي التركيز على التصرفات البسيطة - وهذه أفضل طريقة لخلق الفراغ داخل الذات.بـ) كي نكون فعالين، ينبغي إلا نقوم إلا بعمل واحد في زمن واحد.من بين التقنيات الذهنية في الحكم القديمة، الغربية منها والشرقية، أو الطرق المعاصرة في فن الحياة، التحرر هو الأكثر عالمية وهو يحصل بعدة أشكال مفادها كلها طرد الأفكار التي تقلقنا: المخاوف، اجترار الماضي، المشاريع، الذكريات، المضاربات.. وكل الأمور المثيرة للقلق وغير المفيدة للتركيز على الوقت الراهن. "ينبغي إزالة شيئين منّا: الخوف من المستقبل، وذكريات الآلام القديمة لأنها لم تعد تعنينا كما أن المستقبل لا يعنينا أيضاً" هذا ما كتبه سينيك في رسائله إلى لوسيليوسLucillius.نسيان الماضي ومآخذه، والهروب من المستقبل ومخاوفه كي يتسنى لنا التركيز على الوقت الحاضر: هذه هي الوصفة الرئيسة للسعادة. يضاف إلى ذلك كل تقنيات الاسترخاء، من تمارين مريحة مع بلسم مضاد لانقباض النفس.لكن معرفة الذات يمكن أن تفهم بأسلوب آخر، أقل "تأملية". "اقطف النهار" يمكن أن تعني عدم هدر الوقت، وعدم إرجاء كل الأعمال إلى الغد. فكل يوم هو فرصة ينبغي ألاّ نجعلها تهرب منا. الحياة كلها ليست سوى تتابع أيام حيث كل يوم يوفر مجالاً ممكناً... والخلاصة، "ينبغي ألا ننزع إلى الإرجائية كثيراً بتأجيل كل أعمالنا إلى اليوم التالي".أن نعيش الحاضر شيء جميل، لكن هل هذا ممكن لو أن يدي عالقة في الباب؟ فهذا لن يسعفني إن كان عليَّ أن أستعد للامتحانات، أو التخطيط لرحلة، أو تهيئة وجبة المساء. أن يعيش الإنسان حياته يفترض أن يصمم المستقبل وأن يستبق ويتوقع بتركيزه على شكل الكأس.. فن السعادة هو فن الراحة. لكن ينبغي أيضاً أن نفكر بالوجه الآخر للوجود الإنساني ألا وهو : الفعل.6- اعرف نفسك (وابقَ متسامحاً في الوقت نفسه)المبدأ السقراطي "أعرف نفسك" المسجل على واجهة معبد آبولون في ديلف، نجده اليوم في معظم المعالجات النفسية، وفي التحليل النفسي إلى المعالجات المعرفية- السلوكية. فسواء أسميناها "استبطاناً، أو تحليلاً ذاتياً، أو انعكاسية فإن هذه العودة إلى الذات تهدف إلى إيضاح الأفكار المضمرة، وردود الأفعال الروتينية، والدوافع والانفعالات، وصور الأفكار المتواترة.البوذيون هم كما المفكرون اليونان قد توصلوا إلى هذا الاكتشاف الأساسي: الذاتية، الشخصية. مخاوفي، وغضبي، وأفراحي وآمالي تتغذى بصور استيهامية(11). فينبغي إذاً تعلم التمييز بين الأشياء وبين صورها، وبين المواقف الواقعية الحقيقية، وبين الطريقة التي يتوجب عليّ أن التقطها وأدركها. الحكماء القدامى كانوا بنائين بشكل مبكر.7- كن ذاتك"كن ذاتك" هذه الصيغة ردَّدها نيتشه مرات عديدة (وقد أخذها عن بندار Pindare، وهو شاعر يوناني من القرن الخامس قبل الميلاد) فهي لغز: كيف يمكن أن نصبح ما نحن عليه؟ في الواقع، الفكرة هي أننا جميعنا نمتلك كفاءات واستعدادات متميزة تتطلب أن نظهرها. لكن كيف نعرف ذلك؟نجد الإجابة عند الفيلسوف الرواقي "إيبيكتيتEpictète . فقد سأله أحد تلامذته ذات يوم:"كيف يستطيع كل واحد منا أن يعرف ما يتناسب مع كفاءته؟" وأجاب إيبيكتيت عندها:"كيف يعرف الثور القوة الكامنة فيه عندما يقترب الأسد منه؟" فالجواب إذاً إنه في التجربة والاختبار تظهر الشخصية. فمن غير المجدي أن نبحث في أعماق نفسنا لنجد ما ينبغي علينا فعله. لأنه في الممارسة تظهر مكامن القوة والضعف.لكن الموضوع لا ينتهي عند هذا الحد. إذا كنا نمتلك مواهب لبعض النشاطات (التسامح، استعدادات وميول) ينبغي علينا تطويرها. ويتابع إيبيكتيت: "لا نصبح فجأة ثوراً أو رجلاً من النخبة، بل ينبغي من أجل الوصول إلى هذه المرتبة التدريب، والتهيئة. وينبغي عدم الانطلاق خبط عشواء في مشاريع ليست على مستوى كفاءاتنا" (محفوظات، الكتاب الأول).كان أندره جيد André Gide يقول ذلك بطريقته الخاصة: "ينبغي على الإنسان اتباع ميله لكن صعوداً".8- لا تعتمد على إرادتك وحدهافن الحياة الفلسفي مثله مثل تقنيات تغيير الشخصية، يستند إلى مبدأ تحول داخلي. ينبغي تغيير الأفكار الشخصية كي يتم تعديل السلوكيات. هذا الانقلاب الذهني هو الفعل الفلسفي بامتياز. لأنه يرتكز إلى معرفة الذات المهيئة للسيطرة على النفس.لكن الإرادة هشة ومن المؤكد أن الاعتماد عليها وحدها هو أمر غير كاف بشكل ملحوظ. كل الذين يتخذون قرارات في بداية العام يعرفون ذلك جيداً. تنتهي الإرادة دوماً بالاصطدام بمتطلبات أخرى، بشهوات آنية، بمتع وتسليات، وبروتين وبألف من المغريات التي تنافس الواقع.ومن هنا يبرز الدرس الأساسي: للتغيير، ينبغي تغيير البيئة أيضاً. عندما نكون فعالين في بيئتنا، نؤثر كذلك في أنفسنا. وهذا ما يقوم به بعض المراهقين بشكل عفوي حيث يعلمون أنهم لن يستطيعوا مقاومة بعض المغريات (ألعاب الفيديو، الرفقاء، التلفاز) فيطلبون الذهاب إلى المدرسة الداخلية. هذه هي خدعة "اوليسUlysse" الذي يطلب بأن يتم ربطه بصاري السفينة ليقينه بأنه لن يستطع مقاومة سحر غناء جنيات البحر.يحصل التغيير الشخصي بعد تغيير محيط الحياة. ولدينا جميعنا التجربة: يكفي الخروج من الإطار الاعتيادي كي تتغيّر أفكارنا. الرحلات، هي أفضل وسيلة لتغيير الأفكار. المحيط الاجتماعي، من أصدقاء، ولقاءات، ونوادٍ، وجمعيات، ومؤسسات، كل هذه الأمور تلعب دوراً أساسياً في تغيير سلوكياتنا: سواء أكانت جيدة أم سيئة، فهي تساهم في اقتلاعنا من وضع أو في إعادة انغماسنا فيه. يميل الخبراء في تغيير الشخصية إلى التأكيد على دور كل الدعائم الخارجية في تحويل الذات.لم تخطئ الديانات الكبيرة عندما وضعت جهازاً معقداً من تقنيات ضبط النفس محاولة منها لتحريض الرعية على التصرف كمريدين صالحين: شعائر طقسية يومية، صور تذكارية، أشياء مثل(المسبحة أو وسيلة للصلاة)، شعارات بسيطة، نماذج مرجعية، إلخ. كل هذه الأمور تشكل نوعاً من سلة وجودية مخصصة لتشجيع نموذج حياة للمؤمنين الصالحين.9- ما يتعلق بشخصيتييدعو إيبيكتيت في نص شهير له، إلى الفصل بين "ما يخصني" (وأستطيع تغييره) وبين "ما لا يخصني" (وينبغي عليّ قبوله). من غير المفيد إذاً أن نقلق من أجل أشياء لا نستطيع السيطرة عليها: ينبغي أن نتعلم كيف نتقبلها وحتى كيف نتلقاها بصفاء وهدوء.إن درس إيبيكتيت ينص أيضاً على أن نحتفظ على الدوام بهامش من التحرك للإفلات من القيد (إذ هو نفسه قد ولد رقيقاً وحصل على حريته). فن الحياة بمعنى مقدرة التحكم بالذات، والسيطرة على المصير الشخصي، له إذاً جذور إناسية(أنتروبولوجية)، وتاريخية وسايكولوجية عميقة جداً: وهو بمواجهة والتصدي لخبرات الحياة، لذلك تم وضع تقنيات ذهنية للنجاة والاستمرار. بعض منها يساعد على تحمل الآلام والحرمان من الحقوق، وبعضها الآخر يساعد على التسلح سايكولوجياً لمواجهة التحديات.بهذا التوجه، يتضح أن فن الحياة وتطوّر الشخصية ليسا من اختراعات الحداثة الجديدة. لقد كانا حاضرين في اليونان القديم وفي الصين أو الهند القديمة وفي معظم الحضارات الأخرى.لكن هذه التقنيات يشجعها اختصاصيو علم الاجتماع في مجتمعاتنا المسماة "تأملية - استبطانية". فإن كان الموضوع يتعلق بدراسات في العمل الوظيفي، أو بحياة الزوجين، فكل إنسان مدعو ليقوم بخيارات وألا يخضع لتعليمات تفرض عليه فرضاً. أن إدارة حياته تستند إلى تحركه الشخصي. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تنظيم حياته وترويضها. وهذا ما يشعره تماماً الطالب الذي يركن إلى نفسه، والموظف الذي يتمتع بهامش نسبي في تنظيم أوقات دوامه وبأساليبه في العمل (طالما أنه يتوصل إلى إتمام أهدافه)، والعاطل عن العمل الذي يبحث عن وظيفة، ومدمن الكحول أو المدخن الذي يتمنى التحرر من إدمانه.. الخ.المجتمع الاستهلاكي ومجتمع الاتصالات يخضعوننا جميعاً إلى محرضات مستمرة تدعو للاستهلاك، والاستعلام، والتسلية. والإنسان الفرد، الواقع في شرك رغبته الخاصة، يشعر بالحاجة إلى التحرر من هذا التأثير المستولي عليه كي يتحكم بنفسه بشكل أفضل. من هنا تظهر أهمية المطابقة والمعادلة بين رسائل البساطة الطوعية التي تدفع نحو النجاح، وبين الحكم القديمة التي كانت تدعو إلى تخفيف الرغبات ومقاومة الأهواء التافهة."ما هو متعلق بي"، هو أيضاً التخلص من هذه المهيجات، والتسليات، والتحريضات أو الإيعازات التي تجرني في جميع الاتجاهات بغير نظام فترهقني وتمنعني من متابعة أهدافي التي حددتها لنفسي. هذا إن كنت قد حددتُ بعضها.10- لا تتمهل كي لا يفوت الأوانيقول آراغونAragon: عندما نتعلم كيف نحيا، يكون قد فات الأوان، فقد تأخرنا جداً. هذه هي المفارقة في فن الحياة: يلزم لنا وقت طويل لنتعلم كيف نحيا وعندما نتوصل لذلك تخوننا القوى التي تفارقنا. هناك فكرة محبطة أخرى تود لو أننا نتعلم كيف نحيا بفضل صدمات الفشل. "الضربة التي لا تميت تجعلنا أقوى" (نيتشه). هذا هراء! من المؤكد أن عامل البناء المبتدئ المتمرّن يتعلم بشكل أفضل كيف يحمل مطرقته بعد أن يكون قد أصاب أصابعه بطرقات شديدة. كذلك الأمر بالنسبة إلينا فنحن نفكر غالباً كيف نحفظ معلوماتنا بعد أن نكون قد أتلفنا مرة أو مرتين أقراص الحاسوب الصلبة. لكن أغلب الإخفاقات الكبيرة لا تحولنا إلى أقوياء: فهي تصيبنا برضوض، وتجعلنا أقل ثباتاً وأكثر ضعفاً(12).هناك أسلوب آخر أكثر إيجابية بالنظر إلى الأمور. فقد عزا "بويس Boèce" إلى الحكمة هدف "المواساة"، أما "إيبيكتيت" فكان يراها وكأنها "علاج" للآلام. لكننا ماذا ننتظر من علاج؟ ليس أن يعطينا الصحة والشباب الأبدي، بل أن يشفينا من وجع أو على الأقل يخفف من حدته. ومن الطبيعي أن دروس الفلسفة لا يمكن أن توفر السعادة المطلقة ولا أن تكفل نجاح مشاريعنا. ونعلم أيضاً، إن المعالجات ينبغي أن تؤخذ بفطنة وروية، فقد كان ايبوقراطHippocrate يقول: "كل شيء سم، لا شيء سم، المسألة هي في القسط". كل دواء له في النهاية آثاره الثانوية غير المحببة. ويصلح هذا بالنسبة إلى دروس الحياة.يمكن أن تفهم الفلسفة على أنها فن الصراع. ففن الصيد يعلمنا أن نعرف الطريدة، أن نلاحقها وأن نضع لها الشراك، وأن نصوِّب ونطلق. لكنه لا يكفل أبداً أن الصيد سيكون جيداً. فن الرسم يعلمنا كيف نصنع مناظر طبيعية أو صوراً لأشخاص، لكنه لا يعطينا لا الموهبة ولا الرغبة بالرسم. فن الملاكمة يعلم كيفية تسديد اللكمات، وكيفية تجنبها، وكيفية تحملها؛ يهيئ للمعركة لكنه لا يعِد دوماً بالنجاح. كذلك الأمر بالنسبة إلى فن الحياة. فهو يساعد على مواجهة اختبارات الحياة لكنه لا يكفل النتيجة. لكن عدا الأخيرة إذا افترضنا مع "مونتينMontaigne " أن: "التفلسف، معناه أن تتعلم كيف تموت".:smailes83:

التعليقات (0)