الطريق إاى الولد الصالح
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد فإنه لا مخرج لنا من الأزمة التي نحن فيها إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وتطبيقاً، وتحكيم الكتاب والسنة في كل أمورنا صغيرها كبيرها، عظيمها وحقيرها، ثم تنشئة أولادنا على ذلك وغرس حب الله والرسول في قلوبهم، وتعويدهم منذ الصغر على التضحية من أجل هذا الدين والعمل لرفعة هذا الدين وبذل الغالي والرخيص في سبيل إعلاء هذا الدين. وقتها سيعود جيل خالد بن الوليد، وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وقتها سيسود المسلمون العالم كما ساده أجدادهم من قبل {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4، 5].
من أجل ذلك كتبت هذه الكلمات سائلا المولى تبارك وتعالى أن ينفع بها في حياتي وبعد مماتي إنه أكرم مسؤول، وصلى اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***
الولد الصالح هو خير كنز يتركه المسلم من بعده، فهو نافع لأبويه في حياتهما وبعد موتهما. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
بل إن الذرية الصالحة يجمع شملها من آبائها الصالحين في الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]، فعلى المسلم أن يأخذ بالأسباب لنيل الولد الصالح وهذه الأسباب نجملها فيما يأتي:
1- اختيار الأم:
على المسلم أن يختار لأبنائه الأم المسلمة التي تعرف حق ربها، وحق زوجها، وحق ولدها، والأم التي تعرف رسالتها في الحياة، الأم التي تعرف موقعها في هذه المحن، الأم التي تغار على دينها، وعلى سنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وذلك لأن الأم هي المصنع الذي سيصنع فيه أبناؤك وهي المدرسة التي سيتخرجون منها فإن كانت صالحة أرضعتهم الصلاح والتقوى، وإن كانت غير ذلك فكذلك.
وصدق الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذة الأستاذة الألى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
وهذه نماذج تخرجت من مدرسة الأم:
يقول محمد المقدم:
لا تكاد تقف على عظيم ممن راضوا شمس الدهر وذلت لهم نواصي الحادثات، إلا وهو ينزع بعرقه وخلقه إلى أم عظيمة، كيف لا يكون ذلك والأم المسلمة قد اجتمع لها من وسائل التربية ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها؟ مما جعلها أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم وفي مسارب دمائهم.
* فالزبير بن العوام:
قامت بأمره أمه صفية بنت عبد المطلب فنشأ على طبعها وسجيتها.
والكملة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر، وما منهم إلا له الأثر الخالد والمقام المحمود.
* وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة، وأحفلها بجلال الخلال، فكان مغداه على أمة فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وعبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم تركه أبوه صغيراً، فتعاهدته أمه أسماء بنت عميس ولها من الفضل والنبل مالها.
* معاوية بن أبي سفيان أريب العرب وألمعيها ورث عن هند بنت عتبة ما لم يرث عن أبي سفيان وهي القائلة- وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: "إن عاش معاوية ساد قومه "- ((ثكلته إن لم يسد إلا قومه " وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع الفخر بالمقدرة، وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه فصدع أسماع خصمه بقوله: (أنا ابن هند).
* وأبو حفص عمر بن عبد العزيز أورع الملوك، وأعدلهم وأجلهم، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، أكمل أهل دهرها كمالاً، وأكرمهن خلالاً، وأمها تلك التي اتخذها عمر لابنه عاصم وليس لها ما تعتز به من نسب ونسب إلا ما جرى على لسانها قول الصدق في نصيحتها لأمها وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق.
* وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الذي ولى الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتشرق بالدماء، فما لبثت أن قرت له وسنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح حصناً في غزوة واحدة.
ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا وتغلغل في أحساء سويسرا وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له، ورجف لبأسه، وبعد أن كانت قرطبة دار إمارة يذكر الخليفة العباسي على منابرها، وتمضي باسمه أحكامها، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوربا وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها.
أتدرى ما سر هذه العظمة، وما مهبط وحيها؟
إنها المرأة وحدها، فقد نشأ عبد الرحمن يتيماً قتل عمه أباه فتفردت أمه بتربيته، وإيداع سر الكمال
وروح السمو في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت.
* وسفيان الثوري، وما أدراك ما سفيان الثوري؟! إنه فقيه العرب ومحدثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث الذي قال فيه زائدة: (الثوري سيد المسلمين)، وقال الأوزاعي: (لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان).
وما كان ذلك الإمام الجليل، والعلم الشامخ، إلا ثمرة أم صالحة، حفظ التاريخ لنا مآثرها وفضائلها ومكانتها وإن كان ضن علينا باعها. روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله بسنده عن وكيع قال: (قالت أم سفيان لسفيان: يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي).
فكانت رحمها الله- تعمل، وتقدم له، ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة، قالت له ذات مرة فيما يرويه الإمام أحمد أيضاً: (يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك، وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك)، فهل ترى من غرابة بعد هذا أن نرى سفيان يتبوأ منصب الإمامة في الدين، كيف وهو قد ترعرع في كنف مثل هذه الأم الرحيمة، وتغذى بلبان تلك الأم الناصحة التقية؟!
* والإمام الثقة الثبت إمام أهل الشام وفقههم، أبو عمرو الأوزاعي.
يقول فيه أبو إسحاق الفزاري: (ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري فأما الأوزاعي فكان رجل عامة والثوري كان رجل خاصة، ولو خيرت لهذه الأمة، لاخترت لها الأوزاعي، لأنه كان أكثر توسعا، وكان والله إماما).
قال النووي رحمه الله: (وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي وجلالته وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف رحمهم الله كثيرة مشهورة مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه، وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة-، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له واعترافهم بمرتبته)
ذلك الحبر البحر كان أيضاً ثمرة أم عظيمة:
قال الذهبي: قال الوليد بن مزيد البيروتي: ولد الأوزاعي ببعلبك، وربى يتيماً فقيراً في حجر أمه، تعجز الملوك أن تؤدب- أولادها أدبه في نفسه. ما سمعت منه كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه.
ولا رأيته ضاحكاً يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول: تُرى في المجلس قلب لم يبك؟!
وهذه أم (ربيعة الرأي) شيخ الإمام مالك أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة، وكانت أمه قد اشترتهما له بمال الرجل، فأحمد الرجل صنيعها، وأربح تجارتها في قصة ساقها ابن خلكان قال:
وكان فروخ أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته (أم ربيعة) ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرساً، وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال: يا عدو الله أتهجم على منزلي؟
فقال فروخ: يا عدو الله أنت دخلت على حرمي فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بن أنس فأتوا يعينون ربيعة، وكفر الضجيج، وكل منهما يقول: لا فارقتك، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت وقالت: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به.
فاعتنقا جميعا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال: هذا ابني؟
فقالت: نعم.
قال: أخرجي المال الذي عندك. قالت: تعرض: قد دفنته وأنا أخرجه، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته- فأتاه مالك والحسن، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به.
فقالت أمه لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل فقيل: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
فقال لقد رفع الله ابني، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها.
فقالت أمه: فأيهما أحب إليك.. ثلاثون ألف دينار أم هذا الذي هو فيه؟
فقال: لا والله بل هذا.
فقالت: أنفقت المال كله عليه.
قال: فوالله ما ضيعتيه. أ هـ.
هذه هي الأم المسلمة التي جلست في بيتها، وأنتجت لنا أعظم ثروة، صنعت الرجال العظماء الذين قادوا البشرية إلى الخير والرشاد.
2- الدعاء:
على المسلم أن يدعو الله أن يرزقه الولد الصالح الذي ينفعه في حياته وبعد مماته والله عز وجل يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال سبحانه وتعالى في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان-: 74].
3- أذكار البناء:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادما، فليقل: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه- وإذا اشترى بعيراً، فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك ".
4- أذكار الجماع:
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبداً".
5- التأذين في أذن المولود:
يستحب التأذين في أذن المولود عند ولادته وذلك لعدة أمور:
1- لفعل النبي صلى الله عليه وسلم: فقد قال أبو رافع رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة رضي الله عنها بالصلاة.
2- لكي يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلمات التوحيد وشعار الإسلام.
3- وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به، وإن لم يشعر.
4- هروب الشيطان من كلمات الأذان، لأن الشيطان يترصده عند ولادته.
5- فيه معنى من معاني انتصار الإنسان على الشيطان.
6- فيه إشارة إلى أن وظيفة المسلم في الحياة هي الدعوة إلى الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} {آل عمران: 110].
6- تحنيك المولود:
يستحب تحنيك المولود عقب الولادة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما التحنيك؟ وما الحكمة من ذلك؟
التحنيك معناه (مضغ التمرة ودلك حنك المولود بها وذلك بوضع جزء من الممضوغ على الإصبع، وإدخال الإصبع في فم المولود، ثم تحريكه يميناً وشمالاً بحركة لطيفة، حتى يتبلغ الفم كله بالمادة الممضوغة، وإن لم يتيسر التمر فليكن التحنيك بأية مادة حلوة).
ولعل الحكمة في ذلك تقوية عضلات الفم بحركة اللسان مع الحنك مع الفكين بالتلميظ، حتى يتهيأ المولود للقم الثدي، وامتصاص اللبن بشكل قوي، وحالة طبيعية، ومن الأفضل أن يقوم بعملية التحنيك من يتصف بالتقوى و الصلاح.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم، وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة، ودفعه إلي.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم.
7- اختيار الاسم الحسن:
على المسلم أن ينتقى من الأسماء أحسنها وأجملها، تنفيذاً لما أرشد إليه، وحض عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم ".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن".
8- العقيقة:
عن سلمان بن عامر الضبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى".
وعن أم كرز رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة واحدة".
9- التربية الإسلامية المتكاملة:
على الآباء والأمهات أن يعلموا أن أمر التربية ليس بالأمر اليسير، وإنما هو المحرك الأساسي لسلوك الولد فيما بعد، ولذا كان يجب على المربين سواء كانوا، آباء أو أمهات أو معلمين أن يهتموا بأمر التربية ويتقنوا أصولها، ولقد كان المسلمون الأوائل ينتقون لأولادهم أفضل المؤدبين علماً وأحسنهم خلقاً، وأميزهم أسلوباً وطريقة: وإليك طرفاً من أخبارهم.
* روى الجاحظ أن عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدب قال له: (ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء ولا تتكلن على عذر مني، فإني اتكلت على كفاية منك.
* وروى ابن خلدون في مقدمته أن هارون الرشيد لما دفع ولده الأمين إلى المؤدب قال له: (يا أحمد: إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعتك له واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة).
* وقال عبد الملك بن مروان ينصح مؤدب ولده؟ (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الرجال وأهل العلم منهم، وجنبهم السفلة والخدم فإنهم أسوأ الناس أدبا، ووقرهم في العلانية وأنبهم في السر، واضربهم على الكذب، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار).
* وقال الحجاج لمؤدب بنيه: (علمهم السباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون من يكتب عنهم، ولا يجدون من يسبح عنهم).
* وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الشام يقول لهم: (علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية).
* وقال أحد الحكماء لمعلم ولده: (لا تخرجهم من علم إلى علم، حتى يحكموه، فإن اصطكاك العلم في السمع، وازدحامه في الوهم مضلة للفهم)..
*ومن وصية ابن سيناء في تربية الولد: (أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية حسنة آدابهم، مرضية عاداتهم، لأن الصبي عن الصبى ألقن، وهو عنه آخذ، وبه آنس).
* قال هشام بن عبد الملك لسليمان الكلبي مؤدب ولده: (إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني، وقد وليتك تأديبه، فعليك بتقوى الله، وأد الأمانة وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله ثم روه
من الشعر أحسنه، ثم تخلل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم وبصره طرفاً من الحلال والحرام، والخطب والمغازي).
أصول التربية:
لابد للمربين من معرفة أصول التربية الإسلامية والإلمام بجميع جوانبها حتى يقوموا بها خير قيام ويعدوا لنا الجيل الذي يعود بالأمة المسلمة إلى سيرة الأسلاف الكرام الذين سادوا الأرض بعزة الإيمان. وهاكم أصولها:
أولاً: التربية الإيمانية:
المقصود بالتربية الإيمانية ربط الولد منذ تعلقه بأصول الإيمان، وتعويده منذ تفهمه أركان الإسلام وتعليمه من حين تمييزه مبادئ الشريعة الغراء.
1- تعليمه أصول الإيمان مثل:
الإيمان بالله سبحانه، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل.
الإيمان بسؤال الملكين، وعذاب القبر، والبعث، والحساب، والجنة والنار، وسائر المغيبات وتعليمه أركان الإسلام مثل: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
وتعليمه مبادئ الشريعة مثل: أقضية الإسلام، وأحكامه، وقوانينه، ونظمه وينتج عن ذلك عدة أمور:
أ- حب الله تعالى: وذلك بلفت نظر الطفل إلى نعم الله التي لا تعد ولا تحصى. فمثلاً: لو جلس الوالد مع ولده على الطعام فقال له: هل تعلم يا بني من أعطانا هذا الطعام؟ فيقول الولد: من يا أبتي؟ فيقول الأب: الله فيقول الولد: كيف؟ فيقول الأب: لأن الله هو الذي رزقنا ورزق الناس جميعاً أو ليس هذا الإله بأحق أن تحبه يا ولدي، سيجيب الولد: نعم.
ولو مرض الولد مثلاً فيعوده الوالد على الدعاء
يقول له: أدعو الله أن يشفيك لأنه هو الذي يملك الشفاء ثم يحضر له الطبيب ويقول له: هذا الطبيب سبب فقط ولكن الشفاء من عند الله، فإذا قدر الله له الشفاء يقول: اشكر الله يا ولدي، ثم يبين له فضل الله فيحبه لأنه هو الذي أكرمه بالشفاء. وهكذا في كل مناسبة وعند كل نعمة تربطها
بالمنعم حتى يغرس حب الله و قلب الولد الصغير.
2- حب الرسول صلى الله عليه وسلم: وذلك بتعليمه مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته، ووفاءه، وحلمه، وكرمه، وصبره، وإخلاصه، وبهذا يحب الولد نبيه صلى الله عليه وسلم.
3- مراقبة الله تبارك وتعالى: وذلك لأنه يعلم أن الله مطلع عليه في كل حركة وسكنه فسيراقبه، ويخشاه، ويخلص في عمله ابتغاء مرضاة الله.
4- أحكام الحلال والحرام: وذلك لأن المربي سيبين له الحرام حتى يجتنبه، والحلال المباح كي يفعله، والآداب الإسلامية كي يمثلها. وخلاصة القول أن مسئولية التربية الإيمانية لدى المربين والآباء، والأمهات لهي مسئولية هامة، وخطيرة لكونها منبع الفضائل ومبعث الكمالات، بل هي الركيزة الأساسية لدخول الولد في حظيرة الإيمان. وبدون هذه التربية لا ينهض الولد بمسؤولية، ولا يتصف بأمانة، ولا يعرف غاية، ولا يتحقق بمعنى الإنسانية الفاضلة، ولا يعمل لمثل أعلى ولا هدف نبيل، بل يعيش عيشة البهائم ليس له هم سوى أن يسد جوعته، ويشبع غريزته، وينطلق وراء الشهوات والملذات، ويصاحب الأشقياء والمجرمين.
فعلى الأب أو المربي أن لا يترك فرصة سانحة تمر إلا وقد زود الولد بالبراهين التي تدل على الله، وبالإرشادات التي تثبت الإيمان وبالصفات التي تقوي جانب العقيدة.
وهذا أسلوب فعال في ترسيخ العقيدة في نفوس الصغار، ولقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ينتهز فرصة ركوب عبد الله بن عباس خلفه على حمار فيقول له:(يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف). وهاهو يرى غلاماً تطيش يده في الصحفة أثناء تناوله الطعام فيقول له: (يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)
ثانياً: التربية الخلقية:
التربية الخلقية هي مجوعة المبادئ الخلقية، والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الطفل ويكسبها، ويعتاد عليها منذ تمييزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفاً إلى أن يتدرج شاباً إلى أن يخوض الحياة.
ومما لاشك فيه أن الفضائل الخلقية، والسلوكية والوجدانية هي ثمرة من ثمرات الإيمان الراسخ، والتنشئة الدينية الصحيحة.
والطفل منذ نعومة أظفاره حين ينشأ على الإيمان بالله، ويتربى على الخشية منه، والمراقبة له، والاعتماد عليه، والاستعانة به، والتسليم لجنابه فيما ينوب ويروع تصبح عنده الملكة الفطرية، والاستجابة الوجدانية لتقبل كل فضيلة ومكرمة، والاعتياد على كل خلق فاضل كريم.
لأن الوازع الديني الذي تأصل في ضميره، والمراقبة الإلهية، التي ترسخت في وجدانه، والمحاسبة النفسية التي سيطرت على تفكيره وإحساساته كل ذلك بات حائلا بين الطفل وبين الصفات القبيحة، والعادات الآثمة المرذولة، والتقاليد الجاهلية الفاسدة، بل إقباله على الخير يصبح عادة من عاداته، وتعشقه المكارم والفضائل يصير خلقا أصيلا من أبرز أخلاقه وصفاته. والعكس تماما حينما تكون التربية للطفل بعيدة عن العقيدة الإسلامية، مجردة من التوجيه الديني والصلة بالله عز وجل، فإن الطفل لاشك يترعرع على الفسوق والانحلال، وينشأ على الضلال والإلحاد، بل سيتبع نفسه هواها ويسير خلف نوازع النفش الأمارة، ووساوس الشيطان وفقاً لمزاجه وأهوائه وأشواقه الهابطة.
الأخلاق الهابطة:
هناك عدة أخلاق منتشرة بين الأطفال لا مراعاتها والتحذير منها وهي:
1- خلق الكذب:
وهو خلق ذميم فواجب على الآباء والمربين أن يراقبوا أولادهم حتى لا يقعوا في ذلك الخلق الشنيع.
ويكفي الكذب تشنيعا وتقبيحا أن عده الإسلام من خصال النفاق فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
2- خلق السرقة:
وهو لا يقل خطراً عن الكذب، وهو منتشر في البيئات المتخلفة التي لم تتخلق بأخلاق الإسلام، ولم تترب على مبادئ التربية والإيمان. ومن المعلوم بداهة أن الطفل منذ نشأته إن لم ينشأ على مراقبة الله والخشية منه، وأن يتعود على الأمانة وأداء الحقوق، فإن الولد- لاشك- سيدرج على الغش والسرقة والخيانة، وأكل الأموال بغير حق، بل يكون شقيا مجرما، يستجير منه المجتمع، ويستعيذ من سوء فعاله الناس لهذا كان لزاماً على الآباء أن يغرسوا في نفوس أبنائهم عقيدة المراقبة لله، والخشية منه، وأن يعرفوهم بالنتائج الوخيمة التي تنجم عن السرقة وتستفحل بسبب الغش والخيانة.
3- خلق السباب والشتائم:
وهو خلق قبيح منتشر في محيط الأولاد خاصة من تربوا بعيدا عن هدى القرآن، والالتزام بالإسلام.
يقول عبد الله علوان: والسبب في انتشار ظاهرة السباب والشتائم. بين الأولاد يعود إلى أمرين:
الأول: القدوة السيئة:
فالولد حينما يسمع من أبويه كلمات الفحش والسباب وألفاظ الشتيمة والمنكر.. فإن الولد- لاشك- سيحاكي كلماتهم، ويتعود ترداد ألفاظهم.
فلا يصدر منه في النهاية إلا كلام فاحش، ولا يتلفظ إلا بمنكر القول وزوره.
الثاني: الخلطة الفاسدة:
فالولد الذي يُلقى للشارع، ويُترك لقرناء السوء، ورفقاء الفساد، فمن البديهي أن يتلقن منهم لغة اللعن.
لهذا كله وجب على الآباء والأمهات والمربين جميعاً أن يعطوا للأولاد القدوة الصالحة في حسن الخطاب، وتهذيب اللسان، وجمال اللفظ والتعبير كما يجب عليهم أن يجنبوهم لعب الشارع، وصحبة الأشرار، وقرناء السوء- حتى لا يتأثروا من انحرافهم ويكتسبوا من عاداتهم.
ويجب عليهم كذلك أن يبصروهم مغبة آفات اللسان ونتيجة البذاءة في تحطيم الشخصية، وسقوط المهابة، وإثارة البغضاء والأحقاد بين أفراد المجتمع.
ويمكنك أن تُلقى على أسماعهم بعض الأحاديث التي تنهى عن اللعن والسب مثل: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل فيسب أباه، ويسب أمه".
4- خلق الميوعة والانحلال:
يقول عبد الله علوان: أما ظاهرة الميوعة والانحلال فهي من أقبح الظواهر التي تفشت بين أولاد المسلمين وبناتهم في هذا العصر الذي يلقب بالقرن العشرين، فحيثما أجلت النظر تجد كثيرا من المراهقين الشباب والمراهقات الشابات قد انساقوا وراء التقليد الأعمى، وانخرطوا في تيار الفساد والإباحية دون رادع من دين، أو وازع من ضمير، كأن الحياة في تصورهم عبارة عن متعة زائلة، وشهوة هابطة، ولذة محرمة، فإذا ما فاتهم هذا فعلى الدنيا السلام.
وقد ظن بعض ذوي العقول الفارغة أن آية النهوض بالرقص الماجن، وعلامة التقدم بالاختلاط الشائن، ومقياس التجديد بالتقليد الأعمى، فهؤلاء قد انهزموا من نفوسهم، وانهزموا من ذوات شخصياتهم وإرادتهم قبل أن يهزموا في ميادين الكفاح والجهاد.
فترى الواحد من هؤلاء ليس له هم في الحياة إلا أن يتخنفس في مظهره، وأن يتخلع في مشيته، وأن يتصيع في منطقة، وأن يبحث عن ساقطة مثله ليذبح رجولته عند قدمها، ويقتل شخصيته في التودد إليها.. وهكذا يسير من فساد إلى فساد، ومن ميوعة إلى ميوعة حتى يقع في نهاية المطاف في الهاوية التي فيها دماره، وهلاكه.
ومن هنا يتعين على المربي أن يهذب أخلاق الولد وأن يبعده عن صحبة السوء وأن يربطه بالصحبة الطيبة، وعليه أيضاً أن يباشر الولد فإذا وجد منه اعوجاجا سارع بتقويمه قبل أن يتأصل فيه.
ثالثا: التربية الفكرية:
لقد انتشرت في الساحة الآن أفكار كثيرة منها الصالح والطالح والبناء والهدام، والحق والباطل.
فعلى الوالد أن يبين لولده الحقيقة، ويفرق له بين الغث والسمين من هذه الأفكار حتى يشب على بينة من أمره، ولا تجتاحه الأمواج كما اجتاحت كثيراً من شباب المسلمين.
ويدخل في هذا أيضاً أن يعلم ولده كيف ينزل الناس منازلهم فإذا ذكر أمامه رجل من أهل المجون والفسوق كالفجرة من المغنين والمغنيات مثلاً احتقره وحط من قدره حتى لا يتخذه الولد قدوة له، وإذا ذكر أحد الدعاة أو المصلين أو العلماء المستقيمين، رفع قدره، وعظم أمره، وعود الولد على حبه كي يقتدي به، وهذه لفتة مهمة لمن تدبرها.
ولابد من تعويد الولد وتنشئته على حب السنة وأهلها، وبغض البدعة وأهلها.
رابعا: التربية الجسمية:
الجسد هو الدابة التي تحمل الروح في السفر إلى الله، فإن أكرمتها، وأحسنت إليها واصلت بك وإن أهملت أمرها انقطعت بك في الطريق (إن لجسدك عليك حقاً).
فلا مانع من تعليم الولد بعض التمرينات الرياضية التي تقوي جسده وتنشط جسده وتنشط روحه، وقد قال غمر بن الخطاب رضي الله عنه (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل).
فلو أحضرت لولدك بندقية وعلمته أصول الرماية الصحيحة لكان خيراً، وكذلك تعليمه قيادة السيارات والدراجات وغيرها من الآلات العصرية.
وأخيراً:
عليك بالملاحظة التامة لولدك في كل حركاته وسكناته، وتصرفاته وتحاول أن تصلح ما تراه قد اعوج سالكاً في ذلك اللين والشدة، والرخاوة والقسوة، كل حسب حاجته، ولا تظن بذلك أن ولدك صار صالحاً كريما مقداما وإنما عليك بالدعاء إلى الله والتضرع إليه أن يصلح ولدك فإن الله وحده هو الذي بيده مفاتيح القلوب.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذه الكلمات معينة لنا على تربية أبنائنا تربية صحيحة إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين من أئمة الهدى أجمعين.
0