من لآلئ القلوب: الحنان..
الحنانُ قِرْبَةُ ماءٍ في صحراءَ واسعة، وظلٌّ وارفٌ تأنَسُ إليه الروحُ الظَّمأى عندما تنالُ الرَّمضاءُ من رقَّتها وعذوبتها وقتَ الهاجرة ما تنال، وعندما تسومُ الأحاسيسَ الرقيقةَ أعاصيرُ الهجرِ العاتية، وعندما تُزَجُّ المشاعرُ في قفصٍ ضيِّق يسدُّ المهاربَ عليها، ويَكبتُ تغريدها، ويحبسُ بوحَها.
الحنانُ أنشودةُ الأملِ على أوتارِ النفس، وقطراتُ الندى على خميلةِ الفكر، وامتدادُ الأفقِ في بؤبؤ العيون الحالمة.
وهو أثرٌ من آثارِ الخالقِ حيث أودعهُ في صدرِ الأم لبناً خالصاً، وفي راحتَيها دفئاً، وفي قلبها واحةً من الأمان، فعندما يُذكرُ الحنان يقفِز إلى الذهنِ صورةُ الأمِّ التي أعلى الإسلام قَدرَها، وعظَّم شأنها..
جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، من أحقُّ الناس بحسن صحابتي ؟ قال: ((أمّك)) قال: ثمّ من ؟ قال: ((أمّك)) قال: ثمَّ من ؟ قال: ((أمّك)).
قال: ثمّ من ؟ قال: ((ثمَّ أبوك))
ومما قيل في الأمِّ التي هي يَنبوع الحنان الثّرُّ وقمرُ الكون المضيءُ:
- قال شكسبير: "ليس في العالم وسادة أنعمُ من حِضْن الأم".
- وقال لي شيبي: "الأمُّ شمعة مقدّسة تُضيءُ ليل الحياة بتواضع ورقّة وفائدة".
- وقال سقراط: "لم أطمئنَّ قطُّ إلا وأنا في حجر أمي".
- وقال نابليون بونابرت: "الأمُّ التي تهزُّ السَّريرَ بيمينها تهزُّ العالمَ بشمالها".
- ومما يُستحسن ذكرُه في هذا المقام هذا الحوار المؤثّر بين أم وولدها حيث يعبّر عن أرقى درجات المحبَّة والحنان والتضحية والنُّبل:
أغرى امرؤٌ يوماً غُلاماً جاهلاً بنُقودِه حتى ينالَ به الوَطَر
قال: اِئْتِني بفؤاد أمّكَ يافتى ولكَ الدّراهمُ والجواهرُ والدّرَر
فمضى وأَغْمَدَ خَنجراً في صَدرها والقلبَ أخرجه وعادَ على الأثَر
لكنَّهُ من فَرْطِ سُرعته هَوى فتدَحرَجَ القلبُ المضرَّجُ إذ عَثَر
ناداهُ قلبُ الأمِّ وهو مُعفَّرٌ ولَدي حَبيبي هل أصابَكَ من خَطَر؟
فكأنَّ هذا الصوتَ رغمَ حُنوِّه غَضَبُ السَّماء بهِ على الوَلَد انْهَمَر
فاستَلَّ خَنجَرَه ليَطعَنَ نفسَه طَعْناً ليَبقى عِبرةً لِمَنِ اعْتَبَر
ناداهُ قلبُ الأمِّ: كُفَّ يداً، ولا تَطعَن فؤادي مرَّتَين على الأثَر
الحنان بحرٌ من الحبِّ يحملُ في طيَّاتِ أمواجِهِ تباشيرَ الغَيث، وفي قعرهِ يسكنُ اللؤلؤ والألماس والمرجان.
ومن رحمة الله الواسعة إيداعُ الحنانِ ليس في قلوب البشَر فحسب بل في قلوبِ البهائم أيضاً؛ إذْ تحنو على أولادِها، وتُرضعُهم اللبن، وتحرسُهم وتوفِّرُ لهم أسبابَ الحماية..
وأودعَهُ في نُسوغ الأغصان التي تُمدُّ ثمارَها بالغذاء حتى ترتويَ وتَنضَج..
وأودعه في الزهور التي تمنحُ الرحيقَ للنحل ليقدِّمه عسلاً نافعاً لبني البشَر.
الحنانُ مفتاحُ النَّفس فإذا ما هَمَس إليها، ودغدغَ أحاسيسَها، وحرَّك أوراقَ زهورِها فإنها تسعدُ، وتستفيقُ، ثم تتوقَّد وتبتسم، فتضوعُ عطراً يملأُ الآفاق، فيداعبُ خيوطَ الشمس الفضيّة تارةً، ويرتمي في أحضان النسيم تارةً أخرى، ليرسلَه هديَّة جميلةً للخمائلِ والأفنان، فتصحو البلابلُ والعصافيرُ من طيبِ الأريج، وتغرِّدُ فرحةً جَذلى فيطربُ الكونُ وتبتسمُ السُّحب البيض.
الحنانُ يتمثَّل في كلمة حقٍّ، ونُصرةِ مظلوم، ومواساةِ مُبتلى، ولمسةٍ حانية على رأس مَعوق، وهمسةِ حبٍّ في أذن مجروح.
الحنانُ يتمخَّض عن الحق تمخُّضَ العسل عن الرحيق، وتمخُّضَ النُّبلِ عن الأخلاق.
الحنانُ تضحيةٌ كتضحيةِ الأبِ العَطوف في سبيل الأبناء، وتفاني المعلمِ المخلص في الصفِّ من أجل التلاميذ، وتضحيةِ الأحرار ذَوداً عن دينهم وأوطانهم.
الحنانُ يولِّدُ الأخوَّة بين الناس، لأنه إذا ما حطَّ رحالَه المباركة على ضفَّتَي قلب طيِّب، فإنه يُسخِّنُ ماء هاتين الضفَّتَين بدفئه، فيعلو نُبلهما، ليُشكِّل سحائبَ الخير التي تَهمي على الدنيا فُيوضاً من العَطاء.
الحنانُ دواءٌ لكثيرٍ من الأدواء فإنِ استُخدِم في وقته، وبقدرِ الحاجةِ إليه، نفعَ وأجدى، وإن استُخدِمَ بعشوائية ومن غيرِ ضوابطَ فإنه يُضرُّ، فهو سلاحٌ ذو حدَّين.. فما أكثرَ الآباء والأمهات الذين كانوا سبباً في تضييعِ أبنائهم لإغراقهم إياهُم بالحنان الجارف الذي غمرَ شخصياتهم فأضرَّ بها، كما يُضرُّ الماءُ النبتةَ إذا ما غمرها كلَّها؛ لأن النبتةَ تحتاجُ إلى الماءِ في أوقاتٍ محدَّدة، كما تحتاج إلى الشمسِ في أحايينَ أخرى، وفي مرَّة ثالثة قد لا تحتاج إلى هذا أو إلى ذاك، بل تحتاجُ إلى رطوبة وهواء. وهذه هي حال الإنسان.
كلُّ واحدٍ منَّا بحاجةٍ إلى الحنان، لأن حاجةَ النفوسِ إلى الحنان كحاجةِ الأرض إلى المطر، وحاجةِ الشِّفاه إلى الابتسامة، والعينِ إلى الكُحل، والأغصان إلى زقزقة العصافير، والجداول إلى همسِ النجوم.
وتأمَّلوا هذه اللمسةَ الحانية من نبيِّ الرحمةِ والهداية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسحُ على رؤوسِ الأيتامِ في يومِ العيد، ويتفقَّدُ الحزانى والثكالى والمجروحين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((خيرُ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُحسَنُ إليه، وشرُّ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُساءُ إليه))
فالحنانُ وديعةُ اللهِ في النفوس الطيبة، ولمسةٌ نديَّةٌ من لمسات الخالق بثَّها في القُلوب الصافية، فلا تبخَلوا بها على أرحامكم وجواركم، وعلى الغُرباء من الناس والمبتلين، وعلى الأيتام الذين طارَ بريقُ الفرح من عيونهم، وتلاشى حسُّ الأمان في نُفوسهم.
قال تعالى:{فأمَّا اليتيمَ فلا تَقهَر* وأمَّا السائلَ فلا تَنهَر}. [الضحى: 9-10].
ولرُبَّ همسةِ حنان واحدة فتحَتِ الآفاقَ أمامَ موهبةِ طالبٍ كامنة، ورسمت الأملَ على شفاهِ مَكروبٍ يعتصرُه الألم، ويُقِضُّ مضجعَه الحزنُ، وغيَّرت مسيرةَ إنسانٍ من دروبِ الضَّياع إلى دروبِ الحقِّ والهدى.
فيا أيها الزوجُ الكريم، إذا وَجدتَ في نفسك الحاجةَ إلى لمسةِ حنانٍ من مديركِ في العمل، أومن والدَيك، فامنَحْ زوجَتَك تلك الهمسةَ؛ لأنَّ أفضلَ طريقةٍ للحصول على الحبِّ مبادرَتُك الآخرين بالمحبَّة. فالعطاء قيمةٌ وشجاعة وسعادة.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمونَ يرحمهُم الرحمن، ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمكم مَن في السماء، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرَّحمن، فمَن وصَلَها وصلهُ الله، ومَن قطعَها قطعَهُ الله))
هَبُوا الحنانَ للآخرين تُوهَب لكم المحبَّة، وارحموا الآخرين تُظلّكم غمامة الرِّضا العلويَّة، وبوحوا بالكلام الطيِّب، تحصدون محبَّة الناس وخالق الناس، وعامِلوا الناس بخُلُقٍ حَسن يُقرِّبكم نبيُّ الرحمة والهداية إليه في جنات النعيم.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحبَّكُم إليَّ، وأقربَكُم منِّي في الآخِرة، أحاسِنُكم أخلاقاً)
الصراحة موضوعك اعاد لي ذكرى او ربما تجربة لاعرف معنى الأم او حنان الأم
بارك الله فيكي اختنا