ما وراء القمر

55

3,966

أدبنا الضاحك ...!!






:taksheer:أدبناالضاحك:taksheer:





الفكاهة فن و فلسفة .. فهي فن لا يجيده إلا القلائل من الناس ، وهي فلسفة لأنها يجب أن تكون تعبيرا ً عن موقف أو نظرة أو فكرة ، تتوسل إليها بلطف ودقة




باللمح دون الإطالة و بالتلميح دون التصريح ، و إذا خلت الفكاهة من هذه العناصر


– وهي أحيانا ً قد تخلو –




جاءت ناقصة باهتة اللون عاجزة عن الوصول إلى نفوس الناس وقلوبهم..





والفكاهة في الأدب العربي تشمل على جميع هذه العناصر .




ولعل أزهى فترة من فترات أدبها إنما هي فترة الأدب العباسي التي ازدهرت الحياة الأدبية فيها جميعا ً ، كتابة وتأليفا ً ، شعرا ً ونثرا ً ، كما حفلت الحياة فيها بشتى أنواع الصراعات المذهبية و العقلية ، فجاء أدب هذه الفترة ممثلا ًلتلك النشاطات بشتى اتجاهاتها وصورها .






فلم تسلم جماعة أوفئة ، مهما كان شأنها في العمل الجاد ، من أن تكون هدفا ً لفكاهة أو حكاية طريفة أونقد ساخر يتناول شخصياتها و يقدمها للناس في إطار مقبول وممتع

.



هل تجوزالفكاهة شرعا ً ؟!







يناقش العلماء المسلمون جدوى الفكاهة انطلاقا ً من المقولة إلى أن الجدَّ الدائم قد يحمل العقل على الجمود والجفاف ، و أن الفكاهة - أو المزاح كما يسمونها - باب للعقل ينفذ منه نحو شيء من الحرية من أجل استعادةنشاطه على أن تكون المتعة مجدية ، و إلا تكون الحياة مزاحا ً أو تفكها ً فحسب .





فاجتماع الجدّ و الهزل أمر لازم لاستمرار نشاط الإنسان ، والمزاح عندهم لا بأسبه




( ما لم يكن سفها ً ) ذلك أن الله تعالى وعد في اللمم بالتجاوز و العفو .. فقال : (الذين يجتنبون الإثم و الفواحش إلا اللمم )





كما يفسره بعض المسلمين .






وهناك قضاة بأعينهم كانوا هدفا ً لحكايات خاصة بهم دون سواهم ، كما حدث مع القاضي يحيى بن أكثم ، وهو من قضاة الرشيد و المأمون .. ولقد كان من أكثر القضاةتعرضا ً للسخرية و الأقاويل ..





قيل : وليَّ يحيى بن أكثم قاضيا ً على أهل جبلةفبلغه أن الرشيد انحدر إلى البصرة .. فقال لأهل جبلة إذا اجتاز الرشيد فاذكروني عنده بخير

.


فوعدوه بذلك .. فلما جاء الرشيد تقاعدوا عنه فسّرح القاضي لحيته وكبر عمته وخرج فرأى الرشيد في الحراقة ومعه أبو يوسف القاضي ، فقال : يا أميرالمؤمنين نعم القاضي قاضي جبلة عدل فينا وفعل كذا و كذا

...


وجعل يثني على نفسه فلما رأه أبو يوسف عرفه فضحك ، فقال له الرشيد : مم تضحك ؟ فقال يا أمير المؤمنين ،المثني على القاضي هو القاضي نفسه ..






فضحك الرشيد حتى فحص الأرض برجله . ثم أمربعزله فعزل

...


وتمتاز بعض حكايات القضاة أو الفقهاء بروح من الفكاهة تصدر عن الشخصية نفسها ، حين تعرضها النادرة لموقف من المواقف الحرجة

..


قيل : جاء رجل إلى فقيه فقال : أفطرت يوما ً في رمضان

..


فقال : اقض يوما ً مكانه

.


فقال : قضيت واتيت أهلي وقد عملوا مأمونية فسبقتني يدي إليها فأكلت منها

.


قال : اقض يوما ً آخر مكانه

.


فقال : قضيت و أتيت أهلي وقد عملوا هريسة فسبقتني يدي إليها

..


فقال : أرى ألا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك .


ومن أبرز الطبقات التي تعرضت للسخرية في الفكاهة هي طبقة المعلمين تلك التي حملت على عاتقها مسؤولية العلم وتأديته ، وقد تعرضت لشتى المفارقات والحكايات ، رغم أن المعلم هو عنوان العلم الذي يحمله على عاتقه ويؤديه رسالة في حياته ..






و أوشك الجاحظ أن يتخصص بحكايات المعلمين حيثكان على صلة مباشرة مع هذه الطبقة وهو يتمتع بقسط عظيم من حب الفكاهة والتندر

.


ومن أشهر الحكايات التي يرويها الجاحظ من مروياته التي خبرها بنفسه ..






الحكايةالتالية :





عن الجاحظ أنه قال : ألفت كتابا ً في نوادر المعلمين وما هم عليه من التغفل ثم رجعت عن ذلك ، وعزمت على تقطيع ذلك الكتاب ، فدخلت يوما ً مدينة فوجدتفيها معلما ً ذو هيئة حسنة فسلمت عليه فرّد على أحسن رد ، ورحب بي

.


فجلست عنده وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر فيه .. ثم فاتحته في الفقه والنحو و علم العقول وأشعار العرب فإذا هو كامل الآداب .






فقلت : هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب .




فقال : فكنت أختلف إليه و أزوره ، فجئت يوما ً لزيارته فإذا الكتاب مغلق ،ولم أجده ، فسألت عنه فقيل : مات له ميت فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء . فذهبت إلى بيته وطرقت الباب فخرجت إليَّ جارية




وقالت : ما تريد ؟


قلت : سيدك .. فدخلت وخرجت وقالت : باسم الله

.


فدخلت إليه وإذا به جالس..





فقلت : عظم الله أجرك ،لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، كل نفس ذائقة الموت . فعليك بالصبر ..




ثم قلتله

:


هذا الذي توفي ولدك ؟





قال : لا ..




قلت : فوالدك ؟




قال : لا ..




فقلت فأخوك ؟




قال : لا ..




فقلت : فزوجك ؟




قال : لا ..




فقلت : وما هو منك ؟




قال : حبيبتي ..


فقلت في نفسي :





( هذه أول المناحس )




فقلت سبحان الله ، النساء كثير وستجدغيرها ..




فقال : أتظن أني رأيتها ؟


قلت : (وهذه منحسة أخرى ) ثم





قلت : وكيف عشقت ولم تر ؟


فقال : اعلم أني كنت جالسا ً في هذا المكان و أنا أنظر من الطاق ، و إذرأيت رجلا ً عليه برد وهو يقول :





يا أم عمرو جزاك الله مكرمـة ردي عـلي فـؤادي أينمـا كانــــا


لا تأخذين فؤادي





تلعبين به فكيف يلعب بالإنسان إنسانا




فقلت في نفسي : لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ماقيل فيها هذا الشعر ، فعشقها

.


فلما كان منذ يومين ، مرَّ ذلك الرجل بعينه وهو يقول :





لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت و لا رجع الحمار




فعلمت أنها ماتت ، فحزنت عليها و أغلقت المكتب وجلست في الدار

.



فقلت : يا هذا ، إني كنت قد ألفت كتابا ً في نوادركم معشر المعلمين ، و كنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه ، و الأن قد قويت عزمي على إبقائه .

و أول ما أبدأ بكإن شاء الله تعالى .






و تتقصد النوادر أن تظهر صورة ساخرة للمعلم وهو يتتبع هذاالتلميذ الداهية ..





تقول إحدى هذه النوادر - منقولة عن الجاحظ أيضا ً -




يقول

:


مررت على خربة فإذا بها معلم ، وهو ينبح نبح الكلاب فوقفت أنظر إليه ، و إذابصبي قد خرج من دار فقبض عليه المعلم وجعل يلطمه ويسبه





فقلت : عرّفني خبره..




فقال : هذا الصبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار و لا يخرج ، وله كلب يلعب به ،فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه

.


وتدور أحاديث أخرى حول طبقةثانية هي طبقة النحويين وعلماء اللغة خاصة وتتناول هذه الأحاديث والنوادر جانبا ًآخر من شخصيتهم يتصل بصورة خاصة بعلمهم في اللغة و النحو وحرصهم على التعامل بالفصحى مع جميع طبقات الناس ، بغض النظر عمن يتعاملون معه ، مما يثير سخرية العامةو تندرهم بالنحوي الذي لا يعرف أين يضع علمه باللغة فلا يفرق بين متخصص بهذا العلم وجل من سائر الناس

..


من تلك





الحكايات الطريفة التالية

:


قيل إن بعض الفقراء وقف على باب نحوي فقرعه ، فقال النحوي : من بالباب ؟





فقال : سائل ..




فقال : ينصرف ..


فقال : اسمي أحمد ..




فقال النحوي لغلامه : أعط سيبويه كسرة فالسائل يظهر هنا و كأنه بارع متخصص في باب ما ينصرف و ما لا ينصرف في علم النحو ، هذا فضلا ً عن حضور بديهته وبراعته في الجواب

.


و مما يحكى أيضا ً في سخرية العامة من النحوي :


( قال نحوي لصاحب بطيخ : بكم تانك البطيختان اللتان بجنبهما السفرجلتان

ودونهما الرمانتان ؟ فقال : بضربتان وصفعتان ولكمتان ، فبأي آلاء ربكما تكذبان..)



من ذلك الحكاية التالية

:


( عاد بعضهم نحويا ً فقال : ما الذي تشكوه

؟


قال : همز جاسية ، نارها حامية ، منها الأعضاء واهية ، و العظام بالية

.


فقال له : لا شفاك الله بعافية ، يا ليتها كانت القاضية ...)





فكأن العامة تنتقم لنفسها في حكايات كهذه

.


وينسحب هذا الأمر على بعض المتشيخين و الشعراء والمحدثين و الأعراب وغيرهم حيث أن النادرة لا تفوت أية ظاهرة من ظواهر الحياة في المجتمع العباسي دون أن تتناولها بالتعريض

..


ولعل أهم ما يمتاز به أدب الفكاهةفي عالم الشعر هو الصورة التي يقدم فيها شخصية الشاعر الفكه بتقديم الشاعر في ضمن طبقة الشعراء العامة ، بل تضيف إلى ذلك أسماء محدودة


لشعراء بأعينهم ، أصبحت شخصياتهم أشبه بشخصية





( مهرج البلاط ) الذي يمتاز بالقدرة على الإضحاك قبل كل شيءوفي هذه الحالة إضحاك الخليفة خاصة وحاشيته .. و أهم ما تمتاز به شخصية




( الشاعرالمهرج )




- فضلا ً عن القدرة على الفكاهة - أنه حاضر البديهة قادر على الخروج من المأزق بضحكة أو بنادرة و مهما كانت قوة هذه النادرة شديدة فهي مقبولة ، إذ تصدر عنه و يقبل الخليفة منه مالا يقبله من سواه

.


ولقد كان الشاعر يتكسب بشعره كمايتكسب الناس بأية حرفة ، وصار بذلك هدفا ً للمتندرين و المتفكهين حتى اقترن لقب(شاعر ) بلقب ( طفيلي ) و راحت الحكايات تعرض بمنزلته و تجعله مع الطفيلي في مقامواحد وتسخر منهما في فرضهما نفسيهما من أجل الارتزاق والكسب

.


و الحكايات كثيرةعن هذا الوجه من وجوه الشعر العباسي ، ومن هذه الحكايات المحتلة لهذا الجانب



الحكاية التالية التي تجمع بين الشعراء و المتطفلين :


قيل : ( نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم ذاهبون إلى وليمة ، فقام و تبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائح لهم .





فلما أنشد كل واحد شعره و أخذ جائزته لم يبق إلا الطفيلي و هو جالس ساكت ..





فقال له : أنشد شعرك ..





فقال : لست بشاعر




قيل : فمن أنت ؟!


قال : من الغاوين




الذين قال الله تعالى في حقهم


( والشعراء يتبعهم الغاوون)





فضحك السلطان و أمر له بجائزة الشعراء .





و الحكايات في جانب الشعراء كثيرة فيهذا الباب .. ومثلها في باب النثر ، فللفكاهة موضع مهم في كتابات الكثيرين و منهم الجاحظ ، الذي ظهر ولعه الشديد بتلك الفكاهات التي تدور حول الطبقات التي خالطهابصورة خاصة .. و كتابه البخلاء مليء بالمفارقات و الفكاهات الباسمة رغم أنه لم يكن يتتبع أخبار البخلاء وحدهم أو الحديث عن بخلهم خاصة

.



و لا يمكن أن ننسى

بديع الزمان الهمذاني






صاحب أشهر و أول مقامات في الأدب العربي ، فلقد استطاع أن يجمع في مقاماته بين فنون الأدب المختلفة ، و أن يقدمها بلسان هذه الشخصية الفذة




- بطل مقاماته أبي الفتح الاسكندري –




و لبديع الزمان قابلية فنية عجيبة على الجمع المتناسب بين أساليب الأدب المتفننة و صور المجتمع الواقعية في عصره .. كل ذلك في إطار من الفكاهة و النقد الساخر الذي يصيب هدفه إصابة مباشرة

.


و الخلاصة أن أدبنا العربي امتلأ بالفكاهة و التندر ، و روائع الكلام الباسم و المواقف الطريفة

..


و من شاء الاطلاع على شيء من هذا فليقرأ الكتب التي اهتمت بهذا الجانب ومنها

:


الابشيهي ( شهاب الدين أحمد )






وكتابه المستطرف من كل فن مستظرف





وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني





وشرح مقامات بديع الزمان





و كتاب خاص الخاص للثعالبي أبي المنصور






و البخلاء للجاحظ أبي عثمان و غيرها الكثير

.






التعليقات (6)

ما وراء القمر     
sawsan     

مشكورة يا غالية

فواز باراوي     
مشكورةlaugh1laugh1laugh1
endless love     
هالمعلمين طلعوا نهفهlaugh1
شكرا على الموضوع
أبـو الليث     

صحيح انو موضوع طويل لكنه مسلي
الف شكر

كتاكيتو     

مشكورة ماوراء القمر