محمد غياث

22

3,716

تقديم الكتاب الجديد للأستاذ عبد السلام ياسين:

تقديم الكتاب الجديد للأستاذ عبد السلام ياسين:
"القرآن والنبوة"

الفهرس

تاريخ الإصدار والتأليف

غلاف الكتاب

تقديم الكتاب

براعة استهلال

فصول الكتاب

انشغالات الكتاب المركزيةُ

احتفاء بالقرآن، وفضح للجاهلية


تاريخ الإصدار والتأليف


صدر عن دار لبنان للطباعة والنشر بتاريخ 1431-2010 كتاب جديد يحمل عنوان: "القرآن والنبوة" للمؤلف المكثر، الأستاذ المنظر، المفكر الجسور، الشيخ الوقور، عبد السلام ياسين، مرشد جماعة العدل والإحسان المغربية.
ويعود تاريخ تأليف هذا الكتاب، الصادر في طبعته الأولى، إلى حوالي ثلاثة عقود كما يقول التقديم. "وقد حالت ظروف حصار دعوة العدل والإحسان دون طبعه في أوانه" [1]. ويحدد هامش الصفحة 73 عام 1403 تاريخاً لكتابة الكتاب، وتخبرنا الصفحتان 11 و66 بأحد الأشهُر التي حصل فيها التحرير: صفر 1403. لذا "يلمس القارئ حضور بعض الوقائع والأحداث التي تعود إلى تاريخ التأليف" [2]، مما استدعى إضافة تنبيهات في بضع هوامش على المتغيرات اللاحقة قصد تحيين المعطيات وقتها، نص اثنان منها على 1410 تاريخاً لتلك الإضافة[3].
ولم تزد العقود الثلاثة، الفاصلة بين تاريخَي التسويد والإصدار، قضايا المؤلَّف إلا تقديماً على سلم الإشكالات الكبرى التي تشغل رواد الحركة الإسلامية في العالم وتؤرقهم. وهذا البعد الاستراتيجي آية على الوظيفة التقعيدية التصورية التي تؤديها تنظيرات الرجل التي لا تفتأ تتأصَّل، وهي تزداد التحاماً بالمستقبل.
غلاف الكتاب

ويلفت انتباه الناظر إلى العنوان تلك العبارةُ المُضاءة بالكاد في كوة الجزء السفلي لخلفية غلاف صدر الكتاب: (يكاد زيتها يضيء)، والتي تشير إلى قوله تعالى: ﴿ الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾ . وهو تصدير موفق غاية، لمناسبته لعنوان الكتاب جمعاً بين جزءيه. ولْيراجعِ المستزيد ما أورده الحافظ السبتي القاضي عياض رحمه الله في أحد وجوه تفسير الآية في أول فصل من كتاب الشفا، حيث ذكر أن المراد بالنور الثاني في قوله تعالى: (مثل نوره) محمد صلى الله تعالى عليه وسلم[4].
واقتُطِفت كلمات تعريفية من الصفحتين 26 و27، وضِعت في الجهة المقابلة، على ظهر الغلاف، أسفلَ صورة خاتم النبوة الذي كان يختم به رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائله إلى ملوك الحضارات على عهده، لتشرح بتركيز كنهَ الجمع بين شطري العنوان: "القرآن والنبوة".
والكلمات المعرِّفة بهذا الكتاب هي: "الذي ينفرد به الإسلام هو الشهادة التاريخية، المتمثلة في السيرة النبوية وفي الخلافة الرشيدة، ثم بعدُ في ومضات هنا وهناك، بأن القرآن قابل للتطبيق، وبأن دولة القرآن ليست مثالا حالما تمخضت عنه الفلسفة الأرضية كما تمخضت عن المذاهب الفكرية، حتى إذا وقفت المذهبية على أرض التطبيق أسفرت عن ثغرات تملأها رؤوس الملايين من البشر وآلام الشعوب وأنين المقهورين وبؤس الإنسان.
... ينفرد الإسلام وحده بتلك الصفحة السماوية من تاريخ الأرض يحتفظ بها كل مسلم ذكرى حية. هي صفحة النبوة ثم الخلافة على منهاج النبوة" [5].
وفي ثنايا الكتاب: "خاصية الإسلام أنْ جاء مع القرآن الشاهدُ التاريخي: السنةُ النبوية والخلافة الأولى." [6]
تقديم الكتاب

وللمرة الثانية على التوالي، بعد أن خط عبد الواحد المتوكل تقديم آخر كتب الأستاذ عبد السلام ياسين صدوراً: "إمامة الأمة"، يكتب مقدمةَ الكتاب الجديد غيرُ كاتبه: عمر أمكاسو، هكذا بدون صفة تنظيمية أو غيرها، تماماً كما في توقيع معد مقدمة الكتاب السابق.
وعمر أمكاسو تنظيميا عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، ونائب الأمين العام لدائرتها السياسية، ومنسق مكتبها الإعلامي.
وهو علميا أستاذ حاصل على الإجازة في التاريخ، ودبلوم الدراسات المعمقة في التاريخ، يهيئ الدكتوراه الوطنية، وله عدة مقالات وحوارات بالإضافة إلى الاشتراك في تأليف كتاب "رسالة الأستاذ" مع ذ. منير الركراكي.
وتواصليا هو عضو مجلس أمناء مؤسسة القدس، وعضو المؤتمر القومي الإسلامي، وعضو مؤتمر الأحزاب العربية، وعضو مؤتمر الهيئات الأهلية المساندة لحق العودة وتقرير المصير[7].
وقد أعاد تقديمُه التذكيرَ بكون الكتاب "القرآن والنبوة" يندرج ضمن مشروع ضخم ، صدرت منه لحد الآن خمسة كتب، هي: "في الاقتصاد: البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية"، و"رجال القومة والإصلاح"، و"الخلافة والملك"، و"مقدمات لمستقبل الإسلام" و"إمامة الأمة"[8].
وسبب خلو كتابنا من خاتمة مطوي، أو هو المروي في إخبار التقديم باندراج المؤلَّف ضمن مشروع تأخر طبعه.
براعة استهلال

نصُّ عنوان الفصل الأول "عبد يوحَى إليه" صريح الدلالة، سواء ببناء عبارته للمعلوم أو للمجهول، على الموحَى إليه، والموحي، والوحي. على الرسول، والمرسِل، والرسالة. وفقراته الإحدى عشرة تكاد تتحد معه[9] موضوعاً. لكن المُطالع ما إن يشرع في القراءة حتى تفاجئه الجملة الافتتاحية للفقرة الأولى[10] بالحديث عن "أخبار العالم"، أخبار هي أنباء في حد ذاتها، أخبار من الوزن الثقيل، فيستفهم ولا بد عن علاقة عنوان الفصل بأخبار "عالم متحرك عنيف"، و"مستقبلِ الإنسانية المعلق على توازن الردع والردع المضاد النووين"، و"أموالِ المسلمين" الممبَذَّرة رشى في صفقات حكام العرب الخاسرة لفائدة "الأروبي المستعمر" الذي "يعيث في الأرض فسادا"[11]... ويبدو له الحديث عن الوحي والنبوة، خاصة إن كان من الغافلين عن الخالق الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، تغريداً خارج السرب كما يقال، و"يوتوبيا" تترجِم عجزَ أصحابها "انفلاتاً من حلبة المواجهة"[12].
هذا الافتتاح بمنهجية استباقية تجيب عما يغلُب أن يدور بخلد القارئ، وأسلوبٍ يفصح عن المراد في قالب تشويقي، مع تلك النقلة غير المعهودة من عالم الوحي والنبوة إلى واقع التوحل والأنباء، هو عندي مما يسميه أهل البيان حسنَ الابتداء، وبراعةَ الاستهلال.
قالوا رحمهم الله: "حسن الابتداء هو أن يُتأنق في أول الكلام، لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محرَّراً أقبل السامع على الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنه، ولو كان الباقي في نهاية الحسن" . وقالوا: "ومن الابتداء الحسن نوع أخصُّ منه يسمى براعة الاستهلال، وهو أن يشتمل أولُّ الكلام على ما يناسب الحال المتكلَّم فيه، ويشير إلى ما سيق الكلام لأجله" [13]، أي أن تشير في صدر المقال إلى مقصده:

وَإِنْ تُشِرْ لِمَقْصَدِ الْمَقَالِ
بَدْءً فَذَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلالِ
وعليه فإن نص الفقرة الأولى ذو أهمية قصوى، أولاً في فهم السياق العام للتصور الذي يعرضه الكتاب، وثانياً في استيقاف من ألِفت آذانهم "أن تسمع ضوضاء العالم بمعزل تام عن خالق العالم ورسالة الله للعالم وصفوة الله من العالم محمد صلى الله عليه وسلم" ، قصد إِنبائهم "أن المنهاج النبوي مسلك يعبر الدنيا بما فيها من قوى واصطدام واضطراب ونشاط ولا يتجنبها" "، وأن لا سداد لخطانا خارج شرع الله الذي ينيط بكسب أيدينا مسؤوليةَ النصر والكسر" [14]، وأن الحياة لم تكن "أشتاتا ونتفا في سلوك أهل القرآن"، بل كانت "الحياة والموت، الدنيا والآخرة، العابد والمعبود، جميعا يلفها في عقيدة التوحيد والرسالة والملائكة والبعث والقدر شرعة واحدة... لم تكن العاطفة في واد والعقل تائها في التحليل النفسي. كان الإنسان جميعا" ، أما شتاتنا اليوم فهو الانحراف الطارئ الدخيل الذي حقُّه أن يُزال ويُرفع[15].
أمَا يكفي اعتباراً "أن كل المذاهب الضالة جربت فينا ففتكت بنا" [16] وزادت هلكة على حد قول الشاعر:

وكنتُ كنَاشِبٍ في الوَحْل ينوي
نهوضاً وهو يزداد ارتطاما

فصول الكتاب

لم يتجاوز تقديم الكتاب ثلاث صفحات ونصف الصفحة مراعاةً لحجم الكتاب الذي يتكون من أربعة فصول، "عبد يوحى إليه" في ثلاثين صفحة عبر إحدى عشرة فقرة، و"قل ما كنت بدعا من الرسل" في ثمان وعشرين صفحة عبر اثنتي عشرة فقرة، و"الهجرة والنصرة" في أربع عشرة صفحة وست فقرات، و"الجهاد" في خمس عشرة صفحة وأربع فقرات.
ونطيل هنا الكلام عن الفصل الأول "عبد يوحى إليه"، لأن فيه تأسيساً لأم القواعد وفص الركائز في الكتاب، وهي:
- اعتبارُ "الوحي والرسالة مناطَ الإيمان كله" [17].
- وأن نورهما باق بين ظهرانينا، وبهما فقط يستنير لنا المنهاج، أي الصراط المستقيم[18].
- وأن شقوتنا تزداد تحققا لارتيادنا دواء لدائنا في غير القرآن[19]، وهو هو الفرقان والبرهان والإحسان.
- وأن السنة المعصومة نموذج حي خالد، وحي من الوحي، لا تَبايُن ولا انقطاعَ.
- وأن التطبيق المنزَّه عن قصور النظريات الوضعية تكفله الشورى التي "لا يفصلها شيء عن الشرعية الكلية التي تحرر الإنسان من بغي الإنسان حين تجعله عبدا لله وحده لا شريك له" [20].
- ولكن "في إطار علاقة العباد بربهم، علاقة تنظم الجماعة في سلك الرحمة الإلهية الممتدة بركة من السماء " وشَجَنَةً " بين المومنين على الأرض" [21].
- وهي وأخواتها "معان غيبية تجسدت في المجتمع القرآني" [22].
- وأن دولة القرآن لا تقوم بمجرد رفع النصوص شعارا[23]، بل هي "تبغي تركيبا اجتماعيا روحه الرحمة الجامعة بين المومنين، محبة وتوادُداً عضويا يصل العباد بربهم، ويرشحهم ليحبهم الله بمحبتهم لله ولمن يحبهم الله" [24]، بدءً بـ"اتباع الرسول الهادي ومحبته" [25].
- وأن دولة القرآن في غدنا تحتاج لسند تعتمد عليه، "وليس إلا السنة النبوية المعصومة. فهي قوتنا" ، "وإعادة البناء على ذلك المنهاج ممكنة، بل موعودة مؤكدة" [26]"السنة النبوية روح ونور ورحمة وفضل، وتعاليم خالدة، وشورى في الحكم، وإخاء وعدل، وقوة" [27].
أما الفصول الثلاثة الأخرى فقد أوجزتْ مضمونَها آخرُ صفحات الفصل الأول، حيث أفصح الكاتب عن شروعه في الفصول التالية بتأمل البناء الأول كيف تم، ثم كيف انتقض عروة عروة، وتأمُّل أسباب الانتقاض، والتماس منهاج النبوة لإعادته كما كان.[28]
انشغالات الكتاب المركزيةُ

وعلى امتداد هذه الفصول الأربعة يجيب الكتاب عن سؤالين مركزيين:
يتعلق السؤال الأول بكيفية استعادة تلازم القرآن والنبوة ودورِهما في تحقيق المشروع التجديدي الشامل ببعديه العدلي والإحساني، وبنوعية الفهم والإرادة الكفيلتين بتحقيق تجديد الإيمان في القلوب والعزة في الأمة[29].
والاشتغال بالكيف، واستكشافُ أصوله الكبرى وطرائقِه الكلية المسعفة إجرائيا في التغيير المنشود، ديدنُ الكتاب، لذا نفى عنه صاحبه سمة الاهتمام التاريخي البحت: "ليس هذا الكتاب كتاب تاريخ ووصف، إنما هو كتاب منهاج" [30]، وهي العبارة نفسها التي وسم بها المؤلِّف كتابه "الإسلام والقومية العلمانية" قائلا: "وهو كتاب منهاج لا كتاب تاريخ" [31]، في دلالة واضحة وصريحة على انكباب الرجل على اكتشاف المنهاج النبوي الذي يحتاجه المسلمون اليوم "كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في دار الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط" [32].
والعبرة في هذا الاكتشاف أن "ذلك المنهاج الذي كان عملا باهر النتائج، خرج من مدرسته كبار الصحابة، عظماء الأمة، نخبة الإنسانية بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام... ونتج عنه الجهاد الخالد الذي كانت ثمرته "المعجزة التاريخية" التي غيرت العالم أعمق تغيير وأوسع تغيير وأسرع تغيير... وتحول بخاصيته أفراد أنانيون... جماعة موحدة قوية تحمل هَمَّ الجماعة، وتسعى لتحقيق أهداف الجماعة، ويموت أفراد لتبقى الجماعة وتعز" [33].
"المنهاج النبوي مسلك يعبر الدنيا بما فيها من قوى واصطدام واضطراب ونشاط ولا يتجنبها" [34].
فكيف نعيد وهج "سلسلة من المعاني القرآنية النبوية لا تزال تتلى ألفاظها بينما حقائقها غلبت عن الأذهان وغابت من أنفس المسلمين وواقعهم وتقلص أثرها في الأمة" [35]؟ و"كيف نعود ونتخذ القرآن إماما، وكيف نجتمع عليه علما وعملا، وكيف "ننظم" به ما بيننا. هذه هي الأسئلة الجوهرية" [36].
وفي الجواب عن هذا السؤال الأول، وعلى عادته في يقينه بحصول التغير الكوني الكبير الذي سيعيد في المستقبل التاريخ إلى سكّته، يجزم الكاتب بإمكانية إعادة تحقيق المثال النبوي الراشدي المأمول في أزمنة العصر القريبة، فـ"انتظار الأمة للإمامة المهدية" أمل يؤيده "إخبار السنة النبوية بعودة الخلافة على منهاج النبوة بعد عهود العض والجبر"، والصحوة الإسلامية تحفِّز "اليوم حاديَ الانجذاب لتجديد مثال تحقق في التاريخ ويمكن أن يعاد تحقيقه. بل يتأكد تحقيقه بإذن الله كما قرأنا في حديث الخلافة الثانية" [37].
ويُهِم السؤال الثاني طبيعة تصور الإسلاميين لشمولية دينهم، حيث يعتقدون أنه "هو الفهم، وهو العلم، وهو الحياة" [38]، وبه يجتمع المسلمون "عقلا وعاطفة، ماضياً وحاضراً ومصيراً، ديناً ودنيا وآخرة، أفراداً على بينة من هويتهم وعبوديتهم لله ومسؤوليتهم أمامه، وجماعة على بينة من مصيرها التاريخي فيها استعداد وقدرة على الجهاد" [39]، وأن رسالته "شاملة تستغرق الزمان إلى يوم القيامة، والمكان والأجناس والأقوام" ، وأنها "رسالة للإنسانية خالدة" [40].
فكيف تكف شمولية بهذا العمق والاتساع والاحتواء عن ماهيتها المعروفة في الشموليات الأخرى البشرية الوضع، بحيث لا تصبُّ المجتمعَ الإسلامي "باسم الإسلام وشمول شريعته في مسار الظلم واحتكار السلطة واستعلاء الحاكم على المحكوم واستعباد الإنسان في الداخل، والعدوان عليه في العالم... عن هذا السؤال وأمثاله يجيب هذا الكتاب إن شاء الله تعالى" [41]. "كيف نتلافى أخطار شمولية تخنق الإنسان كما فعلت دولة الإديولوجية؟ كيف تكون خلافة على منهاج النبوة كما جاء الوعد لا استمرارا للملك الجبرية ولا تكرارا للملك العاض" [42].
والكتاب لا يتخطى هذا السؤال الذي يطرحه العصر على المسلمين[43] لسبببين متداخلين، ذلك "أن شمولية الإسلام كما يفهمه الدعاة ليست مما يَعلَمه العامة بالضرورة ولا مما يسلمه أعداؤنا" [44]. فالجواب هنا موضوع للتعليم من جهة، وللطمأنة ودفع اللبس والتهمة من جهة أخرى.
والتنويه بشمولية الإسلام راجع إلى الاستعمال المفهومي للكاتب، وليس إلى الإطلاق الاصطلاحي الفلسفي الفكري المعروف، والذي جرى استعمالُه السلبي القدحي في وصم الأنظمة السياسية الاستبدادية ذماً وتحقيراً، لانتهاجها طرق حكم يمسك فيها الحزب الواحد الوحيد السلطة بكاملها، ويحظر معارضته، ويفرض جمْعَ المواطنين وصهرَهم في كتلة واحدة في بوتقة أيديولوجية واحدة في الدولة وخلفها، تحكمها "طبقة لا تسمح لأحد أن يشاركها في العلم ولا تأويل النصوص المذهبية، وتُسكت كل نأمَة تَنْشُد الحق" [45]".
قصدتُ إدراجَ هذا الاقتباس من "القرآن والنبوة" هنا لنتبين موقف الكاتب الثابتَ المُدينَ الماقتَ لشمولية "تريد نصر طبقة على طبقة"، و"لا تزيد الظلم وطغيان الحاكم إلا تفاحشاً"" [46].
وإنما يمدح الكاتب شمولية إسلامية مقيَّدة. إنْ يعتز إلا بشمولية الدين التي تعني عنده "شموليةَ العبودية التي لا تبعض فتشرك بالله وأمر الله جزئية في الحاكمية، أو التشريع، أو الأخلاق، أو الفكر، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو النظام الاجتماعي. عبودية لله شاملة، لا شمولية إديولوجية تستعبد الإنسان" [47].
وهي بهذا المعنى علاقة عمودية إذا صح التعبير بين العباد وخالقهم يستميتون بمقتضاها العلوي في حماية مجتمعهم مما لحق بالدول الفكرية التي بنيت على أنظمة فلسفية "صيغت صياغة تساعد على أن تحتكرها "نخبة" مثقفة قادرة وحدها على فهم النص وتأويله" [48].
تلك العلاقة العمودية جزء ماهية هذه الشمولية. وبهذا تزايل كل ما عداها من الشموليات التي "ما هي إلا إدراك سطحي جدا ما دامت لا تتعرض للمصير الجماعي التاريخي إلا لتطوي وتنسى مصير الإنسان بعد الموت" [49].
ثم إن القرآن "لا يصح أن يحتكره محتكر، ولا أن يُحْرم من تعلُّمه والقيام بحقه طالب" ، باعتباره خطاب الله المباشرَ لعباده. و"لا يطاع مخلوق في معصية الخالق" على مستوى هذا الاحتكار الذي إن حصل من أي جهة، مهما علا شأنها، فإن المعيار والميزان الذي يرده ويلعنه هو "النموذج الحي الخالد" مجسَّداً في "السنة المعصومة في نطقها كما هي معصومة في تطبيقها التاريخي على عهد النبوة".[50]
احتفاء بالقرآن، وفضح للجاهلية

وعلى طول الكتاب وعرضه، يحتفي المؤلِّف احتفاء منقطع النظير بالقرآن الكريم، ويجعله مناط السيادة، ويصِم الأنظمة غير القرآنية بالجاهلية، ويشرِّح أصول هذه الجاهلية ومرتكزاتها تشريحا، ويتتبع خصائصها ومميزاتها بدقة، ويلاحق مظاهرها وتجلياتها ملاحقة لا هوادة فيها، حتى أن القارئ لتسترعي فطنتَه الكثرةُ الكاثرة للفظة الجاهلية في الكتاب.
ولا حاجة للتذكير هنا بأن الأستاذ عبد السلام ياسين ينكر أشد الإنكار على من ينعت المجتمعات المسلمة بالجاهلية.
أما الاحتفاء بالقرآن، فلأن الرجل قرآني القلب والعقل والمنطق، ولكونه يريدها دولة قرآن. وعبارة "دولة القرآن" تكررت ثمان عشرة مرة في الكتاب.
وتفحصْ إن شئت احتفاءه هذا في حديثه الشيق الريق عن القرآن فرقانا وبرهانا وإحسانا، وتقريرِه قواعد ذهبية على مستويات أساسية في حياة المؤمن، أُجملها في النقط العشرة الآتية:
1- "لم يكن القرآن تراثا يحتل حيزا من الفكر ورفوفا من المكتبة، بل كان هو الفهم، وهو العلم، وهو الحياة" [51].
2- "لم تكن الحياة أشتاتا ونتفا في سلوك أهل القرآن. الحياة والموت، الدنيا والآخرة، العابد والمعبود، كانت جميعها يلفها في عقيدة التوحيد والرسالة والملائكة والبعث والقدر شرعة واحدة. لم تكن العاطفة في واد والعقل تائها في التحليل النفسي. كان الإنسان جميعا" [52].
3- "بالقرآن انكشف لجيل القرآن ما في النفس البشرية والكيان البشري الكلي من أسرار كانت غامضة حتى علمهم إياها الوحي. وبه ارتفع عن أعينهم التناقض الظاهر العقلاني بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والجماعة، بين البشر والكون" [53].
4- "بالقرآن ابتنيت نفوس مؤمنة، ومجتمع مؤمن، وحركة في العالم إيمانية" [54].
5- "بالقرآن عرف أهل القرآن الله عز وجل، وبه استناروا في سلوكهم النفسي ومعراجهم الروحي في معارج الإيمان" [55].
6- "بالقرآن كانوا القوة التي حطمت باطل الشرك، وبه أقاموا العدل" [56].
7- "كان القرآن مصدر العلم للجيل القرآني. يعلمون أنه العروة الوثقى. به يستمسكون، والهدى منه يلتمسون" [57].
8- كانوا "يحكمون بحكمه في صغير الأمر وكبيره. في الحيض والنفاس أخصِّ خصوصيات الإنسان، وفي قتال العدو وتمكين دين الله في الأرض أعمِّ الشؤون وأوسعها مدى" [58].
9- "الفيصل بين الإيمان والكفر موقف الناس من القرآن" [59]، ويجب على "أهل القرآن حاملي الرسالة المبلغين عن رسول الله، المترجمين عن كتابه، أن يخدموا الغايات التي رسمها القرآن، ويسخروا لذلك ما في أيديهم من سلطان. في دولة القرآن يجب أن يسود القرآن سيادة مطلقة. مَن لا يدخل تحت لوائه فذلك فرقان ما بيننا وبينه" [60].
10- "كلام الله هو المرجع، به يبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته" [61].
وأما فضح الجاهلية، مرتكزاتِها ومميزاتِها وتجلياتِها، فقد ورد بصيغ مباشرة حاسمة لأسباب ثلاثة في ما أرى:
لِما تشكله أولاً من عقبة كأداء أمام التغيير المنهاجي الشامل المنشود المفضي إلى دولة القرآن، "فمتى اكتشفنا من خلال كتاب الله وسنة نبيه سر التربية النبوية ومنهاجها انفتحت عنا أغلاق الجاهلية الراتعة في الأفئدة، المقيمة عليها، المقيدة لطاقات الفطرة الإيمانية، تمنعها من الانطلاق" [62].
ولأنه ثانياً: أنفع ما يكون التنور، إذا سبقه أو واكبه التطهر، هذا سالب، وذاك جالب، والتنقية تهيئ المحل للترقية.
وثالثاً لأن القرآن والجاهلية في نظر الكاتب هنا كما في غيره من الكتب نقيضان: "الجاهلية نقيض الإسلام. الجاهليون أعداء المسلمين. والقتال بين الفريقين مضرم على أكثر من موقع. فلنعرف خصائص الجاهلية الجوهرية ومواقع المعارك معها..." [63].
ومن هذه الصيغ المباشرة الحاسمة:
1- "التناقض الصارخ بين أحوال الجاهلية وبين ما يدعو إليه القرآن" [64].
2- "إن لغة الجاهلية التي سرت عدواها في لغتنا كما سرت عدوى التشبه بهم في سائر أوجه حياتنا لا تتسع لتعبر عن معاني القلب" [65].
3- "جاهلية اليوم من نوع جديد على التاريخ لا مكان فيها للدين إلا في رُكْنٍ تنسحب عليه أحكام القانون. الحياة الشخصية لا بأس أن تُترَك لشرائع "الأحوال" الشخصية" [66].
4- "لا يمكن أن نجمع بين المنهاج النبوي ومذاهب العصر في أية نقطة. ومن يريد أن يبني إسلاما على منوال مستعار كمن يروم أن تلد له الفأرة غزالا" [67].
5- "تتوجه قوى الجاهلية وحلفاؤها من بيننا لقطع جرثومة الإسلام" [68].
6- "الجاهلية غالبة، وعُصبَة الإسلام ضعيفة. وشوكة الكفر علينا عاتية" [69].
7- "وقد قدَّر الله عز وجل أن يقوى حزب الشيطان في عصرنا، وأن تنتصب الجاهلية أعتى ما كانت الجاهلية لتحارب دين الله" [70].
8- "لا إله إلا الله هي رفض للجاهلية والاستكبار" [71].
9- "قد يتراءى للملاحظ السطحي أن جاهلية هذا العصر حضارة متماسكة. وقد تكبر في عينه إنجازاتها الصناعية والعلمية إذا قاس كل ذلك بمقياس الكم. لكن الإنسان تحت الهياكل الحضارية ما أصابه؟ إنسان عصرنا وثني يعبد مصنوعاته كما كان يعبدها وثني الجاهلية الأولى. يعبد شهواته كما كان يعبدها من قبله. كان للعرب هبل واللات والعزى. وهبل هذا العصر وأصنامه أكثر فتكا بأخلاق الإنسان وحياة الإنسان. هبل هذا العصر حكام متألهون. معابدهم التلفزيون والصحف وسائر وسائل الإعلام. أصنام تتكلم وتفتري وتفرض ألوهيتها على الناس. فأصنام الجاهلية الأولى أمامها هي السذاجة بعينها. أين سطو القبائل بعضها على بعض يومذاك من الهجمة الاستعمارية وضرب الشعوب بعضها ببعض نيابة عن شقي الجاهلية المعاصرة؟ أين أسلحة ذلك العصر من أسلحة الإلكترون والصواريخ؟... كانت تلك جاهلية في روحها، وهذه اليوم نفس الروح تهيمن على العالم باسم الحضارة والتقدم" [72].
10- "عالمنا المعاصر يَلفه ظلام الجاهلية وتعتصرها يدها الأثيمة" [73].
11- "وثنية الجاهلية الأولى تُؤله الحجر والشجر، وتقرب القرابين للأصنام وتتمسح بها. بذلك فقد الإنسان كرامته الآدمية وحُرمته الإنسانية. وإنسان اليوم، والمسلمون وهم مستضعفو العالم في المرتبة الأولى، ضحايا الإهانة المنظمة على يد الجاهلية العالمية ورأس حَرْبَتها اليهود والصليبيون الجدد" [74].
12- "إن عقلنة الإسلام وصَفَّهُ مع المذاهب الفكرية كارثة. وإن حياد العقل عن الهوى والنفس واضطرابها ضرورة لكيلا تكدر منابع المعرفة عفونات النفس وظلامها. لكن معاني القلب الإيمانية نور، ووصل العقل بنور القلب يفتح له مجال العلم الإيماني والإحساني. وإنما أُتينا من رفقة العقلانية الإلحادية وأنماط التفكير الجاهلي، حتى أصبحنا لا نميز بين نور القلب، وقد غاب من حياتنا، وبين هواجس النفس وضبابها وظلامها التي تعلمنا المنهجية العلمية أن نحترز منها ونعزلها" [75].
13- "وتختلط في الذهنية المعاصرة مفاهيم الجاهلية بمعاني الإسلام، وتحتل لغتَنا كما احتلت أرضنا وعقولنا، فيغمُض علينا ديننا." [76]
تاريخ النشر: الجمعة 2 أبريل/نيسان 2010

[1] عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، دار لبنان للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1430/2010، ص 6. [2] المرجع والصفحة نفسهما. [3] ص 28، و43. [4] الملاّ علي القاري الهروي الحنفي، شرح الشفا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2007/1428، المجلد الأول، ص 48. [5] القرآن والنبوة، ص 26، 27. [6] المرجع نفسه، ص 30. [7] استفدت هذه المعطيات من موقع جماعة العدل والإحسان على الشبكة العنكبوتية: www.aljamaa.net [8] القرآن والنبوة، ص 6. [9] مع عنوان الفصل. [10] المعنونة بـ: "الحديث عن الوحي"، ص 11. [11] القرآن والنبوة، ص 11. [12] المرجع والصفحة نفسهما. [13] جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1996/1416، المجلد الأول، ص 283-284. [14] القرآن والنبوة، ص 12. [15] نفسه، ص 14. [16] نفسه، ص 12. [17] نفسه، ص 13. [18] نفسه، ص 12. [19] نفسه، ص 16. [20] القرآن والنبوة، ص 30. [21] القرآن والنبوة، ص 33. [22] نفسه، ص 34. [23] المرجع والصفحة نفسهما. [24] نفسه، ص 35. [25] نفسه، ص 36. [26] نفسه، ص 38. [27] نفسه، ص 39. [28] نفسه، ص 40. [29] نفسه، ص 7. [30] نفسه، ص 75. [31] عبد السلام ياسين، الإسلام والقومية العلمانية، دار الخطابي للطباعة والنشر، البيضاء، الطبعة الأولى، يونيو 1989، ص 114. [32] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الطبعة الثانية، 2001، ص 3. [33] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، دار البشير للثقافة والعلوم، الطبعة الثانية، يونيو 1995، ص 34، بتصرف طفيف لمناسبة الصياغة. [34] القرآن والنبوة، ص 12. [35] نفسه، ص 31. [36] نفسه، ص 16. [37] نفسه، ص 27. [38] نفسه، ص 13. [39] نفسه، ص 14. [40] نفسه، ص 45. [41] نفسه، ص 26. [42] نفسه، ص 28. [43] نفسه، ص 26. [44] المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص 336. [45] القرآن والنبوة، ص 29. [46] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1994، ص 218. [47] القرآن والنبوة، ص 26. [48] نفسه، ص 28. [49] المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص 402. [50] القرآن والنبوة، ص 29. [51] نفسه، ص 13. [52] نفسه، ص 14. [53] الصفحة نفسها. [54] الصفحة نفسها. [55] الصفحة نفسها. [56] الصفحة نفسها. [57] الصفحة نفسها. [58] نفسه، ص 15. [59] نفسه، ص 17. [60] نفسه، ص 17-18. [61] نفسه، ص 18. [62] نفسه، ص 66. [63] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1996، ص 141. [64] القرآن والنبوة، ص 13. [65] نفسه، ص 32. [66] نفسه، ص 37. [67] نفسه، ص 39. [68] نفسه، ص 43. [69] نفسه، ص 44. [70] نفسه، ص 46. [71] نفسه، ص 47. [72] نفسه، ص 47-48. [73] نفسه، ص 48. [74] نفسه، ص 53. [75] نفسه، ص 59. [76] نفسه، ص 92.

التعليقات (1)

Mohanadov     



شكراً