ليس منّا مَن يبيع حُلمَنا
اثنان وستون عاماً، وما زال طريّا كطراوة التين ونديّاً كزيت الزيتون.
حُلم ورديّ قرمزيّ نثره جدّي في عقبه، فورثه أبي جزءا من جيناته، فعشته أنا تراثا عزيزا على نفسي، وأرى بنيّاتي يعتقدنه عقيدة يَكفر من يتخلّى عنها.
حُلم جُبِلَ كلّ فلسطينيّ أن يطبع منه نسخةً أصلية في ذاكرة وأعماق أبنائه وأحفاده، ليعيشوه واقعاً مهما كانت المعاناة والتشرّد والخيام "والبرّاكيات" والهجرة واللجوء والنزوح والنكبة والنكسة والجرحى والمعتقلين والمعوّقين والشهداء والأرامل والأيتام ... فكان كما أريد له حُلماً بال"عودة" التي تستحق كل ذلك وأكثر!!
نعم!! وأظن لو أنّ جراحة أجريت لكل ذاكرةٍٍ فلسطينية لوجدت كلمة "عودة" قد ختمت خلايا هذه الذاكرة العصيّة على كل محاولات التشويه والتلفيق ...
هذا الحلم يعيشه كل فلسطينيّ بطريقته، موقناً بتحقيقه؛ إما له أو لعقبه مهما امتد الزمن، وغدا تميّز العائلة الفلسطينية وفخرها وأصالتها يقاس بمدى تعبيرها عن ارتباطها بهذا الحلم، والعمل على تحقيقه؛ فأصبح مألوفا أن ترى البيوت - على اختلاف مستواها - وقد تكدّست فيها الكتب والخرائط والأوراق والرموز والأيقونات والنقوش والدروع وأسماء القرى والخِرَب.
وتفنّن الفسطينيُّ في التعبير عن هذا الحلم "اليقين"؛ فهذا يصنع حلمه على شكل مفتاح يعلقه تحفة في صدر البيت، وآخر يرسمه خارطة يلوّن فيها اسم قريته، وثالثة ترتديه ثوبا مطرزا بنقوش راميّة أو خليلية، ورابع يعتمره كوفيةً صيفا كان الجو أو شتاء ليتأكّد ويؤكد أنه لن يفرّط في حلمه وأن حلمه لن يفارقه، وخامسةٌ ... وسادسٌ ... وسابعةٌ ...
الأدب الفلسطينيّ: شعرا ونثرا وقصة، والفنّ على اختلاف مشاربه وهوياته، كل شيء، نعم كل شيء، يكتب ويلحن ويعزف ويغني "حلم العودة"؛ حتى لكأني بالأثير حول كلّ فلسطينيًّ "أصيل" لو رُسِم لشكّل كلمة "عودة"، ولو نطق لصرخ يُسمِع كلّ الدنيا: "سنعود"!
ونشطت مؤسسات في الشتات الفلسطيني قامت على فكرة "العودة" والعمل كخلايا النحل لها بشتى السبل، فتراها تصحو "عودة"، وتكتب "عودة"، وترسم خرائط ال "عودة"، بل تحفر أطالس ال "عودة"، وتذكّر كل فلسطيني في كل صِقع من أصقاع العالم بأن "لخربته" من بعد نكبتها له إليها "عودة"!! وترجمت لكل لغات العالم كلمة "عودة"؛ حتى غدت مفردة أصلية في قواميس هذه اللغات.
الكل – أفرادا ومؤسسات ومجتمع بل حتى الأمة من ورائهم – مسكونون بهذا الحلم، ومرعوبون من "مؤامرة" شطبه!!
ولا يمكن لكل من "يعتقد" هذا الحلم، ويعمل له كل ذلك وغيره أن يتخيل أنّ فلسطينيا – مهما اهترأت ذاكرته - قد يخطر بباله أن يفرط بحلمه، عوضاً عن أن يبيع أحلام الملايين أو ينتزع يقينهم بتحقيقها.
فليسوا منّا هؤلاء الذين "يشطبون" أحلامهم بقلم عدوّهم، و"يخونون" أحلامنا بالتسليم للمحتل باغتصابها.
فليعقدوا المؤتمرات من مدريد إلى شرم الشيخ مرورا بكامب ديفيد وأنابوليس، وليستقبلوا المبعوثين ولتخدّرهم الوعود، و"ليفاوضوا" حتى تختم حياتهم بالمفاوضات! حلمنا سيبقى طريّا طراوة الورد ونقيا نقاوة الحنّون. لن ننام على حلم المستسلم أو نفيق على حلم المحتل أبداً. حلمنا راسخٌ في أجيالنا: من شيبنا الذين نصبوه شاهدا على قبورهم، لشبابنا الذين حملوه راية على أكتافهم، لأطفالنا الذين اعتصبوه وشاحاً على رؤوسهم، لأجنّتنا الذين "خلّقوا" معه "مضغا" في أرحام أمهاتهم. حلمنا متجذرٌ في أرضنا من نهرنا لبحرنا مهما حاولوا أن يقنعونا بخرائطهم.
ببساطة ووضوح: ردّد السبعينيّ الذي تنقّل من خيمته إلى معظم عواصم الدنيا على مدى ستين عاما؛ ولم يسمح لمروج الشرق والغرب أن تنسيه شجرة الزيتون في "حاكورته"، ولم تفتنه ناطحات السحاب العربية والغربية فيراها أطول من "طابونه"!! رددّ وقال: "حق العودة بدون فلسفة يعني كل واحد يروّح لداره اللي طلع منها"!!
قطع السبعينيّ قول كل "مفاوض" مهما كان "كبيراً"!! فليس منّا من يبيع حلمنا! حتى لو ادّعى أنه "ينطق" باسمنا.
جزاك الله خيراً
جزاك الله خيرا
بارك الله بكم
آمين يارب العالمين
مشكور أخي في الله
جزاك الله خيرا