هل تريد ان تعرف عن دمشق منذ نشأتها الى عام 1954؟

وصف جميل ومعلومات مركزة عن مدينة دمشق منذ بنائها الى العام 1954 ، سنة كتابة المقال، عندما كان عدد سكانها 400 الف نسمة وكان سيارات "الفورد ابو دعسة" تطوف شوارعها .. واذا اردت ان تبحث ان الدمشقي القديم حينها لا تبحث عنه في "ابي رمانة" والمهاجرين ..

فالمقال المكتوب في مجلة الجندي التابعة للجيش السوري ، يوصي بانك اذا اردت ان تلتقي الدمشقي الاصيل عليك بان تتجه الى سوق ساروجة و الميدان والشاغور ..

مجلة الجندي - دمشق 16 أيلول 1954

أنه لمن أشد الأمور مدعاة للغبطة . أن تحدث نفسك بأنك تسير في أقدم مدينة بالعالم فتدوس على الأرض نفسها التي داست عليها مختلف أنواع البشر ، وتشهد الأمكنة نفسها التي شهدت متنوع أشكال الحضارة ، وهذه ميزة لا تتوفر إلا في مدينة دمشق . فهذه المدينة هي أقدم مدينة مسكونة في التاريخ .

ويعود العهد ببناء دمشق ، إلى زمن متناه في القدم . إلى عهد إبراهيم الخليل . ومنذ انشائها وحتى اليوم ظلت مركز الثقل في مختلف شؤون الشرق من حربية وسياسية واجتماعية واقتصادية وغير ذلك . ولذا فإن من الأمور الطبيعية أن تصبح عاصمة سوريا منذ عهد الأمويين ، وأن تلقب بلؤلؤة الشرق .

تقع دمشق على حدود الصحراء العربية وسط ( الغوطة ) ويطل عليها من الشمال الغربي جبل قاسيون ، وترتفع عن سطح البحر ستمائة وتسعين متراً ، ومن الشرق إلى الغرب يجتازها نهر بردى الذي ينقسم قبل دخوله للمدينة إلى ستة فروع تدعى ( يزيد وتورا وقناة المزة والديراني والقنوات وبانياس ) وفي داخل دمشق يخرج فرع سابع هون نهر عقرباني ، تتميز دمشق بحدائقها وبساتينها التي تستقبل القادم إليها عبر سهول تعرف بغوطة دمشق .

أما سكانها فيبلغون زهاء أربعمائة ألف نسمة . كانت دمشق كما أشرنا ، موطئ سنابك خيل الغزاة والفاتحين في مختلف أدوار التاريخ فقد افتتحها المسلمون في زمن خلافة عمر بن الخطاب على يد قائده أبي عبيدة بن الجراح في السنة الرابعة عشرة للهجرة .

وعند انتقال الخلافة إلى الأمويين اتخذها الخليفة معاوية بن أبي سفيان عاصمة له وعمرها خلفاؤه من بعده فبنى الوليد بن عبد الملك مسجدها المشهور سنة 88 للهجرة المعروف بالمسجد الأموي واتسعت رقعتها خارج أسوراها القديمة فبني حي الميدان في جنوبها والصالحية والمهاجرين في سفوح قاسيون .....

تشتهر دمشق بأبنيتها التاريخية ومساجدها ومدارسها ، ففيها عدا المسجد الأموي المدرسة العادلية والمكتبة الظاهرية وقبر صلاح الدين الأيوبي وقصر العظم والمتحف الحديث . ويحيط بالمدينة سور حجري بني في عهد اليونان والرومان ، وأعيد تخطيطه وبناؤه في عهد الأتابكة والأمويين ولا يزال قسم منه قائما ً حتى الآن كما أن أبواب المدينة القديمة لا يزال بعضها قائما ً كباب توما والباب الشرقي وباب السلام وباب الصغير ..

وبما أنها العاصمة فقد ازدهرت من الناحية العمرانية فبنيت فيها دوائر الإدارة المركزية للدولة وفتحت فيها الشوارع الواسعة وانشيء فيها المجمع العلمي العربي والجامعة السورية ومدارس ثانوية راقية والقصر العدلي . أما دمشق القديمة فإنها تحتوي على أحياء الصناعات والحرف كسوق الحرير وسوق النحاسين الذي يشتمل على حوانيت صنع الأواني النحاسية المنقوشة وأسواق الصباغة والحدادة ودباغة الجلود وغيرها .

يخترق مدينة دمشق شارعان من غربها إلى شرقها هما سوق مدحت باشا وسوق الحميدية وكلا السوقان مسقوفان منذ زمن بعيد وفيهما تتمركز الحياة التجارية والفعالية الصناعية في دمشق . وعلى ذكر الفعالية الصناعية الدمشقية نذكر أنها تضطرد باستمرار ، ففي دمشق اليوم معامل لحفظ الفواكه والخضار وصناعة الصابون والنشاء ومعامل الغزل والنسيج الآلي . ودور الصباغة ودباغة الجلود ومحلات لصنع الموبيليا ومعمل للأسمنت في ضاحيتها ( دمر ) وينتج هذا المصنع تسعين ألف طن من الأسمنت سنويا إلى جانب دور الطباعة العديدة . ومن صناعات دمشق المشهورة التي عرفت بها منذ القديم صناعة القماش الثمين المعروف بالدامسكو ـ نسبة إلى دمشق ـ والبروكار الذي يقترن اسمه باسم المدينة .

وكذلك صناعة العباءات الحريرية والأثواب الموشاة بالقصب . كما أن لها شهرة خاصة أيضاً في صنع الأواني النحاسية المفضضة التي تحفر بزخارف جميلة وتطعم بالمعادن الثمينة ، وبضاعة الموزاييك الذي يطعم بالأصداف بصورة فنية مدهشة ..

ويمكنك أن ترى في دمشق مختلف أنواع السيارات من (( الفورد )) القديمة التي مضى على إنتاجها ربع قرن إلى (( البويك )) (( والكاديلاك )) التي لم تمض بضعة أشهر على أنتجها .

وقد كانت المدينة تعتمد في مواصلاتها على أنواع متعددة من وسائل النقل والسيارات والتراموايات والعربات التي تجرها الخيل .

ولكن الأخيرة كادت تضمحل ولم يبق منها سوى عدد ضئيل جداً ، وأصبحت وسائل المواصلات هي السيارات بمختلف أنواعها بالدرجة الأولى ثم حافلات الترام بالدرجة الثانية التي تربط أحياءها بخطوط منتظمة كما تربطها ببعض قراها القريبة . وترتبط دمشق ببيروت وعمان وبقية المدن السورية بواسطة خطوط حديدية وخطوط سيارات . والسيارات هي الأكثر شيوعاً نظرا لعدم سير بعض الخطوط الحديدية .

أما عن طريق الجو فتتصل دمشق مع أكثر مدن العالم لوجود فروع لشركات الطيران الأمريكية والانكليزية والسويدية والهولندية والفرنسية والمصرية . كما أن هناك شركة سورية تربط بين أنحاء المدن السورية وبعض البلاد العربية الأخرى وطائرات جميع هذه الشركات تحط في ظاهر دمشق ( مطار المزة ) ..

وأهل دمشق يختلفون اختلافا واضحا عن سواهم من أهل المدن السورية الأخرى . فلهجة كلامهم تختلف عن اللهجة الحلبية أو الحموية مثلا .. وأهل دمشق كسواهم من أهل الشرق مختلفون من حيث النفسية باختلاف درجات بيئاتهم وثقافتهم .

فإذا أن أردت أن تعثر على الدمشقي الأصيل فلا تبحث عنه في (( أبي رمانة )) أو (( المهاجرين )) وإنما عليك أن تجده في (( سوق ساروجة )) أو (( باب سريجة )) أو (( الميدان )) أو (( الشاغور )) ففي هذه الأحياء الكبيرة التاريخية تجد نفسية أهل دمشق الحقيقيين الذين يمكن أن يدعوا بـ (( أبناء البلد )) ففي هذه الأحياء تجد أن الشخص المهاب المحترم هو الشخص الذي برم شواربه إلى أعلى ولبس اللباس الوطني المؤلف من الميتان والشروال ووضع على رأسه كوفية وقد كان هؤلاء في القديم يتباهون باقتناء الخناجر الضخمة والمسدسات المخيفة ، ولكنهم أقلعوا عن ذلك الآن ..

في تلك الأحياء تجد الروح الدمشقية الحقيقية ، الروح القائمة على طيبة القلب ومساعدة الجار والمشاركة الوجدانية وحب المرح والطرب والنكتة ، وخلال تاريخ دمشق الطويل كانت جميع الحركات المناوئة للمحتلين المستعمرين تظهر في تلك الأحياء ، فالدمشقي يحب أرضه ومدينته وبلده ، ولا يتردد في بذل روحه ـ بكل بساطة ـ في سبيلها ...

أما في أحياء دمشق الجديدة فإنك تجد شيئاً يختلف عن الأحياء السابقة .

فهناك تسمع اللغتين الفرنسية الانكليزية ينطق بهما بعض السكان بطلاقة أهل السين والتايمز . كما تسمع لهجة عربية تختلف في طريقة نطقها عن لهجة الأحياء القديمة وهي لهجة يدخل فيها كثير من الكلمات الفصحى إلى جانب الكلمات الفرنسة والانكليزية .

وبعد فإن من أصعب الأمور يمكننا أن إيفاء دمشق حقها من الحديث في مثل هذا النطاق الضيق وهي المدينة التي احتلت من التاريخ حيزا واسعا ، ولكن يكفي أن يعلم القارئ أنها تستحق ـ عن جدارة و أهلية ـ لقب لؤلؤة الشرق إلى جانب أنها ، بصورة طبيعية ، تستحق لقب أقدم مدينة في العالم ...