المقامة المونديالية .. إهداء إلى الشارع السوري وإلى أمتنا العربية ... بقلم : سهير علي أومري
حدثنا عيسى البرازيلي بن هشام الأرجنتيني فقال....
كنت في شارع الحمرا أحث المسير ،وقلبي من الخوف يكاد يطير،
فصافرة بدء المباراة ستصدح عما قريب، وليس للوصول إلى ساحة الجاحظ وسيلة نقل ولا سبيل....
فالوقت وقت إغلاق المحلات، والناس ملأت كل وسائل المواصلات....
كنت أركض والدموع تملأ عيني ورأسي يسبق رجلَيّ....
أود لو كان لي جناحان فأطير، أو كان عندي سيارةٌ أتوماتيكياً تسير....
ثم ضحكت بقهقة عالية، فلو كان عندي مثل هذه السيارة لاشتريت كرت التشفير، وتخلصت من السير والركض والتعتير...
كل يوم على هذه الحال أتجول... وبين الساحات والشاشات أتنقل...
ثم قلت في نفسي: يكفي أنني أشاهد المباريات بالمجان فلا أرتمي على أبواب البيوت والعتبات... أو أستجدي أرقام القنوات والشيفرات....
وبينما أنا أركض تارة وأسير أخرى... وقف أمامي على حين غرة... سرفيس كأنه نزل أمامي من السماء.... ليخفف عني التعب والعناء...
غمرتني فرحة كبيرة أمسكتُ طرف الباب وكدت أقفز بطريقة مثيرة....
ولكنني للأسف لم أفعل، فما ظننته نعمة من الله ورحمة لم يكن إلا غضباً علي ونقمة، لأنني بسبب ما حدث وما جرى فاتني حضور المباراة هذه المرة...
فقبل أن يصل قدمي إلى أرض السرفيس ظهر أمامي وجه الراكب النازل الذي ابتسم وقال لي: يا لحظك التعيس!!....
هل تعلمون النازل مَن كان؟ صدفةٌ لو راهنتُ عليها كما أراهن على نتائج المباريات لكسبتُ الرهان....
كان النازل للأسف أبي.... ابتسمتُ ابتسامةً صفراء وقلت يا للعجبِ... مَن!! أبي!! مَن!! أبي!!
هز رأسه بقوة وقال: كشفتك يا محتال.... أظننتَ أنني لن أعلم بخداعك وتلونك من حال إلى حال...
نظرتُ حولي فلم أعرف ماذا أفعل هززت رأسي كالمعتوه أو الأهبل....
تمنيت لو كان لي حناحان فأفلت من بين يديه وأطير.. تمنيت لو كنت عصفوراً أو فراشة أو أحد الصراصير....
ماذا أفعل الآن وقد كشفني ورآني بأم عينيه وأمسكني بكلتا يديه...
أجل... رآني أرتدي تيشرت فرنسا وأرسم على خدي علم فرنسا...
فأخذ يردد ويقول: فرنسا!! فرنسا يا محتال... أهكذا تكون التربية وإلى هذا يؤول المآل...
فرنسا!! فرنسا!! تعساً لك وبئسَ....
بدأ الناس إلينا ينظرون وحولنا يتجمعون، وأبي غاضب يصرخ غير آبه بأولئك الناس وتلك العيون...
فقلت له: لم أعد أعرف ما الذي يزعجك يا أبي وما الذي يرضيك؟!! هل عليّ أن أشجع إسبانيا واليابان والمكسيك!!!.!! هل علي أن أتجاهل ما أحب لأشجع الفريق الذي يرضيك.!!!!
كيف أشجعهم ولا علم لي بهم... لا أعرف من بلدانهم أحداً ولا أعرف من لغاتهم حرفاً...
ما المشكلة في بريطانيا وفرنسا والبرازيل!! هل جريمتي أنني أشجعهم بإخلاص ليس له مثيل!!
هنا انتفض أبي كالطائر الجريح، ووضع يده على صدره كأنه مصاب أو ذبيح...
وأخذ يصرخ ويقول: لا تعرف من إسبانيا واليابان والمكسيك أحداً أبداً... تتشدق بجهلك بملء فيك، وليس لديك من العلم ما يرفعك أو يعليك...
يا خسارة... يا خسارة التعب والتعليم، ويا ضياع الفهم والتفهيم....
فقلت له: على رسلك يا أبي اهدأ... فلا ضياع ولا خسارة... أيّ علم وتعليم وأيّ فهم وتفهيم!! ولِمَ أشجع إسبانيا أو حتى الأرجنتين؟!!...
هنا كاد أبي على الأرض يقع وكأنه أصيب بنوبة صرع.... وهو يصرخ ويقول: أتصل بك الجرأة والصراحة... أن تتهكم بالأرجنتين هكذا بكل وقاحة!!...
ألا تعلم فضل تلك البلاد.... أنسيتَ ماذا قدمت للكون والعباد....
إسبانيا بلد الفلامينكو والرقص الجميل... بلد الطبيعة الخلابة والهواء العليل...
واليابان!! اليابان بلد تويوتا وهيونداي وتوشيبا... بلد الصناعات والاختراعات العجيبة....
والمكسيك!!! المكسيك آاااااه على المكسيك بلد الحب والأحباب والمغامرة.. بلد إكناسيو وراندو وكساندرا!!!
ثم تتجرأ لتصل إلى الأرجنتين الأرجنتين!! بلد.... بلد... بلد...
هنا تلكأ أبي وتلعثم ونظر حوله وتردد، ولكنني بادرت وساعدته فقلت له: أجل يا أبي... الأرجنتين بلد الخيار والتين.....
فهز رأسه على مضض، ثم أراد أن يحرجني فنظر في عينيّ وسألني... مَن تعرف من فرنسا وبريطانيا والبرازيل يا شاطر ؟!!... فكِّر واحذر الجواب العابر...
ولكن هيهات هيهات فجوابي على رأس لساني، وأسبابي واضحة ما لها ثاني،
فقلت له بصوت هادئ رزين وسط إعجاب الواقفات والواقفين: من فرنسا أعرف البطل نابليون، ومن بريطانيا أعرف القائد بلفور..
أما البرازيل... يا إلهي من أعرف من البرازيل!!؟؟ لم تسعفني ذاكرتي باسم شاعر ولا بطل ولا حتى ممثل جميل...
جُبت بعقلي الكتب التي قرأت في حياتي، وندمت على ما فرطت من ساعاتي وأوقاتي...
ورددت: إذا أردتَ أن تعرفَ ماذا في إيطاليا عليك أن تعرف ماذا في البرازيل.. ولكنني لا أعرف ماذا في البرازيل...
ثم وفي اللحظة المناسبة وجدتُ الحجة الدامغة التي أذهلتْ جميع المشاهدين، بل جعلتْهم يؤيدونني ويهتفون لي بالتصفيق والتهليل والتكبير....
فقلت لأبي بصوت واضح جريء وبأسلوب ساذج بريء: أتتنكر يا أبي للبرازيل!!...ومن أرضها المعطاءة تنعم كل يوم بالصباح الجميل...
لولا البرازيل لم تجُدْ علينا بحبات بُنِّها وقهوتها الشهية هل كنت ستطرب كل صباح بصوت فيروز أو تتلذذ بسيجارتك البهية.... البرازيل يا أبي البرازيل!!
هنا علا التصفيق والتهليل وأخذ الناس يهتفون من حولي: الله أكبر برازيل... الله أكبر برازيل... الله أكبر برازيل..... برازيل... برازيل
أطرق أبي رأسه بخجل، وأدرك أنه حكم على البرازيل بعجل... وأنه وإن كان الأكبر سناً لكن هذا لا يعني أن يكون على الدوام محقاً....
عندما انتهى عيسى البرازيلي حديثه صفق له الحاضرون أيضاً...
أما أنا فصفقت وصفقت وصفقت، ولكن ليس لعيسى بن هشام وأجوبته العولمية بل لعالمنا العربي وأمتنا العربية... التي شربت من كأس القدم... نخب الهوية والانتماء على أنغام ديوك السامبا في كأس العالم.!!!
حلللللوة
مشكور استاذنا